السبت, 25-ديسمبر-2010
لحج نيوز - نزار العبادي - لحج نيوز/بقلم:نزار العبادي -

بعد أقل من ثلاث سنوات من ظهوره, بلغ الحراك سن الهرم، وأمسى كل من فيه غارقاً بحيرته يبحث عن سر الشيخوخة المبكرة، وفوضى التمزق، ومصدر عاصفة الخلافات التي تجتاح تكويناته وتمعن بتشتيتها.. ويبدو أن قوة الصدمة انتزعت قدرات الحراك على لملمة أفكاره والتركيز فيها لبلوغ ضالته التي سنضعها اليوم بين يديه.

أولاً: إن أولى الحقائق التي قفز الحراك فوقها هي أنه لا يؤمن بالواقع إطلاقاً, ودأب على فرض أمانيه وأفكاره على أنها هي الواقع, وظل يعيشها حتى اللحظة التي بدأ فيها يصطدم بالواقع الحقيقي.. فقد أجهد الحراك نفسه في الترويج على أن جميع أبناء المحافظات اليمنية الجنوبية "انفصاليون"، وأنه يمثل خيارهم السياسي. وهو إدعاء يجافي الحقيقة التي كان بإمكانه إدراكها لو تصفح مواقعه الإخبارية وصنف أحداثها مناطقياً لوجدها تدور جميعها في نطاق بعض مديريات لحج، ونادراً ما يرد ذكر مناطق جنوبية أخرى. وثمة أدلة أخرى ستتضح أدناه.

ثانياً: إن الحراك صعّد منذ مطلع العام الجاري 2010م حربه ضد أحزاب اللقاء المشترك بعد أن كانت قاصرة على الحزب الحاكم، متجاهلاً حقائقاً في غاية الأهمية: أولها أن تسميته بـ"حراك" تم اشتقاقها من الشعار الذي رفعته أحزاب اللقاء المشترك أبان الانتخابات الرئاسية وهو (تحريك الشارع)، والذي حملته إلى كل قرى ومدن الجنوب في 2007م بسلسلة مهرجانات كانت بمثابة الرحم الذي ولدت منه "جمعية المتقاعدين العسكريين" برئاسة العميد ناصر النوبة، وبالتالي كيف يتنكر للرحم الذي أنجبه وسمّاه أيضاً..!؟

وثاني تلك الحقائق، هي أن الساحة السياسية في الجنوب كانت قبل ظهور الحراك موزعة بين مختلف الأحزاب اليمنية, فنشأ الحراك من خليط عناصر وافدة من جميع تلك الأحزاب، ولم يهبط أحد منهم من السماء، بما في ذلك زعيم الحراك "علي سالم البيض" الذي كان أميناً عاماً للحزب الاشتراكي؛ ولعلها مفارقة مثيرة للسخرية أن يشن الحراك حملة تجريم لعناصر الحزب الاشتراكي وينسى أن زعيمه اشتراكي، والغالبية العظمى من قياداته اشتراكيون، وأن الجنوب الذي يتحدث باسمه كان تحت حكم الحزب الاشتراكي "الواحد" ولم يكن فيه من يجرؤ على رفض الانتماء للحزب.. كما ينسى أن تجريمه للاشتراكيين يعد إعلاناً بالانقلاب على شعار (التصالح والتسامح)، وترسيخاً لثقافة تصفية الحسابات القديمة!

وفي ضوء هذا التخبط، صنع الحراك لنفسه خصوماً من أبناء الجنوب أنفسهم (اشتراكيين وأصحاب الانتماءات الأخرى)، رغم أن معظم قياداته وعناصره قادمة من نفس تلك الانتماءات، الأمر الذي فضّلت في ظله الإبقاء على قدمٍ داخل تنظيماتها القديمة وقدمٍ أخرى في الحراك، ولعب دور مزدوج مخافة الانقلاب عليها وإقصائها على غرار ما حدث لاحقاً بطرد (الشنفرة، والمعطري).. ومن هنا تدافع كثيرون باتجاه الانشقاقات الاستباقية، وحماية أنفسهم ومصالحهم بمكونات مصغرة تناصب العداء لبعضها البعض..

كما أن ذلك التخبط أسقط عن الحراك أي صفة لتمثيل الجنوب، فهو لا يمثل الجنوبيين في صفوف الدولة، ولا الجنوبيين الاشتراكيين، ولا الجنوبيين المنتمين لأحزاب أخرى، ولا الجنوبيين المستقلين غير المنتمين لمكوناته.. بل يجرمهم جميعاً بالخيانة والتآمر ويدعو إلى مواجهتهم.. ومع هذا يتحدث الحراك عن الديمقراطية في تناقض مخزي؛ كما لو أنه لم يقرأ عنها حرفاً واحداً..

ثالثاً: إن الحراك حاول تقليد الحركات الثورية وحركات التمرد في العالم التي تصنع لنفسها أباً روحياً وتجعل الولاء له عنواناً لرص صفوفها، إلا أنه لم يجد سوى شخصيات مستهلكة، متهالكة، تاريخها أسود وحافل بالجرائم والصراعات والفساد, فكان ذلك رادعاً بقوة للساحة الشعبية الجنوبية التي يراهن عليها، وفي مقدمة أسباب تشرذم عناصره إلى ولاءات تجتر نفس حسابات وصراعات الماضي القادمة منه خاصة بعد انقلابه على (التصالح والتسامح) وتجريم الجنوبيين على خلفية انتماءاتهم السابقة لوحدة 22 مايو.

والمسألة هنا ليست كما أسهب القيادي الجنوبي "عبده النقيب" في الحديث عنها بوصفها "أزمة سباق على الزعامة"، بل هي أزمة "أخلاقيات زعامة". فالحراك لم يجد رمزاً قيادياً قادراً على استيعاب الجنوبيين بكل انتماءاتهم السياسية والقبلية والمناطقية وتوجهاتهم الثقافية. فـ"علي سالم البيض" الذي رفع الحراك صوره في جميع المناطق كان أصغر وعياً بكثير من ثقافة قواعد الحراك حيث تعامل على أنه زعيم لحراك لحج والضالع فقط، وكأنهما هما الجنوب!

لذلك انحصر نشاط الحراك داخل تجمعات قبلية متخلفة، أو في أوساط المراهقين والبلاطجة, ممن عاد الحراك بعد ثلاثة سنوات من عمره لإعلان براءته منهم، والادعاء قبل أيام بأن المتقطعين والخاطفين لا ينتمون إليه- لكن الأوان قد فات.. إذ أن القوى المستنيرة التي تجاهل الحراك الرهان عليها تحولت إلى قاعدة إجهاض لأنشطة الحراك تعمل على محاصرته ثقافياً، فليس على وجه الأرض حركة تنادي بالعودة إلى مخلفات الماضي إلا الحراك الذي جعل شغله الشاغل النبش ببراميل قمامة ما قبل 1990م بحثاً عن "زعماء"!

ولم يكن السرّ لهذا الإصرار لأنه مؤمن بأن رحم الجنوب لم ينجب غيرهم، بل على العكس لأنه يدرك أن هناك عقول مستنيرة في الجنوب لا يمكن أن تقبل بتسليط المجرمين والفاشلين وتجار الصراعات على أعناق أبناء الجنوب الذين ذاقوا الويلات على أيديهم.. ولا يمكن أيضاً أن يقبلوا التحول إلى مظلة للبلاطجة وقطاع الطرق، ولدعوات القتل على الهوية، وتفجير المدارس والمراكز الصحية، فلا توجد حركة ثورية شريفة على وجه الأرض تفجر قنبلة داخل مدرسة بنات لمجرد أنهم رفضوا الإذعان لدعوة العصيان المدني!!

رابعاً: نظراً لنشأة الحراك من قوى انتهازية وليست قوى مستنيرة، فقد تعددت المشاريع في ظل تسابق على المنافع المادية التي تقدم بعضها شخصيات ممن فروا بالأموال بعد هزيمتهم في حرب الانفصال 1994م، ورجال أعمال آخرون مضللون بالحملة الإعلامية ويخيل لهم أن الحراك بات قاب قوسين أو أدنى من الكرسي فيجاملونه خوفاً على مصالحهم التجارية, فيما البعض الآخر من هذه الأموال صارت تدرّه جهات خارجية لها أغراضها السياسية في خلخلة استقرار الساحة اليمنية، وهي جهات معروفة للجميع ولها سجلاتها التاريخية في التآمر على اليمن!

خامساً: ترجم الحراك سلوكاً بربرياً همجياً في فعالياته من خلال نشاطه التخريبي الذي طال حتى المدارس والمراكز الصحية، والذي تطور لاحقاً إلى سلوك عدواني دموي يجتر ثقافة الماضي في التصفية على الهوية، وأعمال نهب وسلب وقطع الطرق, ليخرج بذلك عن قيم المجتمع في الجنوب نفسه الذي يعيب هذه الهمجية الشاذة عن الآداب العامة والعقائد الإسلامية.. فالحراك نصب نفسه فوق أخلاقيات المجتمع الجنوبي الذي وقف رافضاً بشدة قتل بائع خضرة أو عامل بناء لأنه شمالي، أو كما فعل الفضلي بطرد المزارعين وأسرهم، وكما فعل حراك لحج بإحراق محلات وبيوت أبناء الشمال..!

هذا السقوط الأخلاقي المزري حوّل البيئة الاجتماعية الجنوبية نفسها إلى وسط رافض للحراك، بعد أن أراده الحراك مستنقعاً حاضناً ليرقاته.. لكن الجنوبيين تعلموا من الزمن السابق التزام الهدوء في ترجمة مشاعرهم عملاً بـ "للحائط أذان"، خاصة في ظل غياب سلطة الدولة ونفوذها لحمايتهم، وفي نفس الوقت كانت الدولة كلما اقتربت من معاقل الحراك لمواجهتهم تفاجأت بالمتهافتين عليها من أبناء الجنوب الذين يسربون لها المعلومات ويمكنوها من إفشال مخططات الحراك أو اعتقال بعض عناصره..

ولولا أن سقوط الحراك كان أقبح من مساويء الدولة بكثير جداً لما تعاون أحدا مع الأجهزة الأمنية، ولما استطاع مليون جندي حماية كأس الخليج.. فالجنوبيون الذين كانوا أيام الاحتلال البريطاني يفتحون أبواب بيوتهم عند سماح انفجار ليلوذ منفذو العملية من الثوار داخلها، هم اليوم يقفلون أبوابهم بمجرد سماع أزيز رصاصة كي لا يبتلون بمجرمين يحرقون محلات وفرشات مواطنين بسطاء عزل ويهربون كالجرذان، ويسمون ذلك "نضالاً".. فالجنوب يعرف جيداً التفريق بين الجُبن والشجاعة!

يقيناً أن الحراك لن يعترف بكل هذه الأخطاء، لأنه كما ذكرنا في المقدمة لا يؤمن بالواقع إطلاقاً ويفضل العيش بالأوهام التي ينسجها في بياناته وأخباره على شبكات الانترنت.. ولأنه مغرور بنفسه إلى أبعد حدود، ويخيل له أنه أذكى وأدهى من خلق الله على الأرض، بلغ سن الهرم سريعاً.. وها هو اليوم يقف مذهولاً أمام عاصفة التمزيق التي تجتاح صفوفه، وما أن تمسي بكيان حتى تصبح وقد تمزق ثلاثاً وأربعاً.. وتلك يافع فاسألوها!!
وأخيراً أنوه إلى أنني لم أتطرق إلى موضوع الوحدة، لأنها أمر مفرغ منه، وليست موضوعاً للجدل.

صحفي ومحلل سياسي عراقي
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 10:43 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.lahjnews.net/ar/news-10116.htm