سند حسين شهاب: -
لا ريب أن هناك كثيراً من المشتركات تجمع شعوب الأرض، وتأتي الثقافة على رأس هذه المشتركات باعتبارها تمثل لغة مشتركة بين هذه الشعوب.
فعندما يتطلع المرء في التاريخ يجد أن هناك الكثير من الوقائع المتشابهة التي تحدث هنا وهناك، وإن كانت في إطار فترات زمنية متباعدة في التاريخ اليمني، وأوضحت كتب ودراسات عدة كثير من المشتركات التي تجمع مناطق عدة، سواء من حيث التسميات أم من حيث الوقائع.
وقد اجتهد الكثير من الباحثين والكتاب اليمنيين في إظهار هذه المشتركات، غير أن الأمر بحاجة إلى جهد أكبر، لاسيما في مجال التراث اليمني الثري، الذي يتطلب من المهتمين جهداً إضافياً لإظهار الكثير منه، والذي نستعرض اليوم أحد مشتركاته في منطقتي لحج وتهامة، وهما من المناطق النائمة فوق بحيرات كبيرة من هذا التراث.
بالصدفة كنت أقرأ مؤخراً في إحدى الصحف وفي صفحتها الثقافية بالذات موضوعاً تراثياً كتبه الشاعر علوان مهدي الجيلاني، بيَّن فيه صورة من صور التراث الذي زخرت به منطقة تهامة، وهي منطقة ثرية بالتراث الذي لم يحظ إلا بالقليل من البحث والدراسة، سواء من أبناء تهامة واليمن على وجه الخصوص أم من العرب ودول العالم عموماً.
الموضوع كان بعنوان (عندما عادت المغنية ولم تجد الزمن)، وكان الشاعر والباحث الجيلاني ذكياً حتى في طرح العنوان، لكونه يشكل عاملاً جاذباً للقراء الذين يتجاوز كثير منهم العديد من الموضوعات إلا إذا كان العنوان لافتاً.
تمحور موضوع الباحث والشاعر الجيلاني حول أسرة فنية عريقة كانت تشكل إحدى المعالم الفنية لمنطقة تهامة، وبالذات في خمسينات وستينات القرن الفارط، وهي الأسرة المعروفة بأسرة مريمي.
لا أدري لماذا أحسست بالرغبة في قراءة الموضوع كاملاً، وكأن هناك ما يدفعني لمتابعة السطور التالية، كلما انتهيت من قراءة السطور التي قبلها.
بدأ الكاتب الجيلاني موضوعه بمقدمة عن الأسرة وكيف تكونت ونشأت منذ البدء، ومن ثم عدد فنانات الأسرة بالاسم، ومن ثم تحدث عن هجرتهم إلى السعودية وارتباطهم هناك، وانتقالهم بعد ذلك إلى عدد من دول الخليج، ثم تحدث عن عودة إحداهن بفعل حرب الخليج الأولى، وهي البنت الصغرى والأجمل والأبرع في فن الغناء والرقص، ثم أعطى صورة تفصيلية عن نشاط الفرقة خلال فترة الخمسينات والستينات وإبداع هذه الفرق إلى حد الإدهاش، وكان نصيب البنت الصغرى في موضوع الجيلاني هو نصيب الأسد، لاسيما أن هذه الفنانة (أمعيده) كانت هي الحلقة الأساسية في الفرقة بقدراتها العجيبة التي كانت تلفت الأنظار في كل مكان تذهب إليه الفرقة لإحياء حفلاتها.
بعد ذلك ذهب الجيلاني يصور حجم الإعجاب الذي كان يلازم هذه الفرقة وكيف انعكس هذا الإعجاب في عدة صور، أهمها الصورة الشعرية التي كان يبديها أحد شعراء تهامة (سود معمى)، من خلال قصائد عدة كتبها في حب هذه الفرقة وإعجابه بها وبفنها حد الوله، وكذا تألمه وحزنه على هجرة الفرقة لأرض اليمن مطلع سبعينات القرن الماضي:
باكن جمال امريمي من اليمن
دوغان صبح خالي عدبو أمدمن
وكان يكني عن بنات امريمي بالجمال والمطايا والزهور والمشاقر وسائر الطيوب والعطور والأشياء الموحية:
كفيت امعودي فوق امفراش
امذهب مخلوط بين امقماش
ولا لقيت امعيده ما فكهاش
واجمال امريمي شلي هواش
لما تبوكي عني نا أغلب علاش
ريتش فراشي مبيض شاسبح علاش
وناسرن بي روحي ما تحطناش
في هذا الوقت بالذات عرفت السر الذي كان يدفعي إلى تلهف الموضوع عندما اكتشفت أنني أمام واقعة مشابهة من تراث لحج، وفي الفترة الزمنية نفسها تقريباً.
فمن خلال متابعتي وأبحاثي لهذا التراث وقعت أذني على سماع قصة عجيبة، مسارها ظهور إحدى الفنانات الراقصات المشهورات في تلك الفترة وتدعى شفاف. كانت شفاف هذه تملك من الجمال وأداء الرقصات ما لم تملكه أي واحدة أخرى، رغم كثرتهن في تلك الفترة.
كانت شفاف تحضر من منطقة سكنها، وهي منطقة بعيدة عن حوطة لحج، وكانت محط إعجاب الكثيرين من حيث جمالها قبل أدائها الفني البديع، وقد حاول الكثيرون الظفر بها عشقاً، غير أنها كانت تستعصي عليهم لاعتبارات عدة.
كانت شفاف ترقص في الميادين والساحات العامة وغيرها من الأماكن لتحيي الحفلات، وكان بإمكان أي شخص يجيد فن الرقص أن يرقص معها، لكن بشرط أن يكون بارعاً حتى يستطيع مجاراتها.
كان واحداً من أبناء لحج ويدعى الصديمي مشهورا بأدائه لفن الرقص آنذاك، وكان كثيراً ما يقوم باللعب معها ومجاراتها، بل حتى التفوق عليها في بعض الأحيان، لكن هذا اللحجي الصديمي كان قد سقط في عشق هذه الراقصة الجميلة.
كان الأداء المتميز للصديمي محل اعتراف الراقصة بقدراته، وهو ما ساعد على إيجاد نوع من التقارب بينهما، أفضى في الأخير إلى اعتراف الصديمي لشفاف بحبه وعشقه لها، وهو يعرف خطورة هذا الأمر، وأنه يمثل نوعا من المجازفة لم يقدم عليها آخرون، لكنه العشق قادر على تجاوز كل شيء.
كان الصديمي يقضي نهار اليوم في بيع الحبحب (البطيخ) وهي الخضرة التي اشتهر ببيعها في حوطة لحج حتى بداية الثمانينات، وعندما يدنو الليل يركض هذا العاشق إلى مرابع حبيبته في منطقة سكنها أقصى غرب الحوطة التي تبعد عن حوطة لحج كثيراً، ثم يعود في اليوم التالي إلى لحج، ومن ثم إلى سكن من يحب، وهكذا دواليك.
لم يكن هذا بالأمر العادي بالنسبة للصديمي، لأنه كان يواجه مصاعب كثيرة تقابله عند ذهابه وعودته، إضافة إلى أن هذا العشق قد كلفه كثيراً حتى على مستوى حياته الاجتماعية، لكن الرجل كان راضياً مصراً على أن كل شيء يهون في سبيل شفاف، وهذا ما يجسده الصديمي نفسه في أبيات شعرية توضح معادلة المعاناة والرضا:
سرى الصديمي سرى في الليل ما يختاف
بين المطر والنفاف
كله على شان شفاف
يبيع حبحب ومروحة لاكدمه الساف
صبح مفلت حراف
كله على شان شفاف
ديوس ما يرتحم ديوس ما ينطاف
باع الحمار والوطاف
كله على شان شفاف.