لحج نيوز/بقلم:ميشيل كيلو -
أصدر السيد متكي، في اليوم الأول (10/11/2009)، فرماناً بعدم جواز تدخل أي طرف في الصراع الدائر في - وعلى اليمن . فعل متكي ذلك بطريقة أحمدي نجاد، الذي لا يتوقف عن قول كلام صريح مغلف بتهديدات مبطنة، أو قول كلام مبطن مغلف بتهديدات صريحة . منع متكي أحدا من التدخل في شؤون اليمن، كأن كلامه هذا ليس تدخلا في شؤونه، ونسي أنه أبدى هو نفسه قبل أشهر قليلة حساسية تجاه أي تدخل في شؤون إيران، بما في ذلك تدخلات من صنع خياله وعقله الشمولي، كإذاعة أخبار ونشر صور في التلفازات الغربية تبين احتجاجات شعب إيران ضد حكومة متكي، وكتابة مقالات عن الحدث الإيراني في الصحافة العالمية .
في اليوم الثاني (11/11/2009)، خفف السيد متكي لهجة فرمانه، الذي منع أحداً غير إيران من التدخل في الصراع الدائر داخل اليمن (وعليه)، وعرض قيام بلده بوساطة بين حكومته والحوثيين، كأن شؤون اليمن الداخلية من صلاحيات إيران، أو كأنه يحق لها التدخل فيها على هواها وبالطريقة التي تروق لها، أو كأن أحد أطراف الصراع تابع لها، وأخيراً كأن طهران أقرب إلى أطراف الصراع منها بعضها إلى بعض، وبالتالي فهي تستطيع جلبها إلى طاولة مفاوضات ليست حكومة اليمن مؤهلة لإقناعها بالمشاركة فيها . لن أتحدث عن علاقة إيران بما يحدث في اليمن، رغم اقتناعي بقوة علاقتها به، وقوة علاقتها بما تعيشه البلدان العربية من تمزق واقتتال وأزمات . سأتحدث عن دور إيران العربي، كما ارتسم بعد نجاح ما سمي “الثورة الإسلامية”، وعن الهوة بين واقع هذا الدور العدائي وبين ألفاظه المعسولة، وسأحاول تلمسه في ضوء الاستراتيجيات الدولية عامة والأمريكية خاصة .
قبل كل شيء، يجب أن تكون مخاصمة إيران ومعاداتها آخر ما يسعى إليه أي عربي أو مسلم . إيران جزء من نطاق حضاري/ ديني/ لغوي أقامه الإسلام حول مركزه وحامله العربي، فمن الجنون الصرف تحطيم هذا النطاق أو إضعافه أو العمل ضده . عندما هاجم الرئيس الراحل صدام حسين إيران، وبغض النظر عما إذا كان محقاً أو لا، كنت من أوائل من لفتوا الأنظار إلى خطورة ما فعل، وطالبت بوقف فوري للحرب . وحين أوشكت هذه على الانتهاء، حذرت، بالمقابل، من قيام إيران الإسلامية بتحطيم حامل الإسلام ومركزه العربي . غير أن من يتابع ما حدث منذ ذلك التاريخ، سيلاحظ الظواهر المؤسفة الآتية:
1 - ترى إيران في الوطن العربي منطقة يجب أن يسودها فراغ قوة وحكم ليصبح الفراغ وسيلة تستدعي نفوذها ووجودها كنفوذ ووجود مهيمن ومسيطر . أذكّر هنا بالطريقة التي احتلت إيران بها الجزر الإماراتية الثلاث، وبطريقة اجتثاثها أي وجود عربي فيها، رغم أنه وجود جد قديم وجد محدود . وأذكّر بعربستان وبالخرائط التي وزعتها سفارات طهران مرارا وتكرارا لأراضيها، وتضم البحرين وجنوب ووسط العراق، وأذكّر بإصرارها على اسم الخليج الفارسي ورفضها اقتراحاً عربياً يسميه الخليج الإسلامي، وبتدخلها في الشؤون الداخلية لبلدان عربية كثيرة، وخاصة في العراق، حيث نظمت الثورة الإسلامية حركة هجرة إيرانية واسعة إلى هذا البلد العربي، وأرسلت الآلاف من رجال الحرس الثوري، وأنفقت مليارات الدولارات سنوياً على شراء الذمم والأعوان، وعملت لصالح أطراف عربية ضد أخرى، على امتداد الوطن العربي، وتدخلت دوما في الشؤون العربية انطلاقاً من نظرة قومية ذات غلاف مذهبي أفادت من افتقار الوطن العربي إلى مركز قوة يتكور حوله، وتعاملت مع قضايانا عامة وقضية فلسطين خاصة باعتبارها طعماً يصلح للمزايدة، ولاصطياد الأسماك العربية الضعيفة وربطها بالمركز الإيراني، فلا عجب أن تسود الوطن العربي الخشية من شقه إلى فئتين متقاتلتين دينيا ومذهبيا، وشده إلى سياسات تستخدمه لتنفذ مآربها الخاصة، القومية الطابع، الرامية إلى اتباعه لها باسم الإسلام وما تدعو إليه القيادة الإيرانية من حتمية الحرب الدينية ضد الغرب، وهدفها منها زج المنطقة العربية في معركة ستؤدي إلى ربطها بطهران إلى أمد طويل، وإدخالها في معارك ليست معاركها، هي بالأساس معارك للسيطرة على الوطن العربي، تدور بين الدول الغربية وبين إيران، لن يخرج العرب منها رابحين، في الحالتين .
2- اعتمدت إيران منذ يومها الأول سياسة إضعاف مبرمجة للعرب، وتابعت نهجاً معادياً ونافياً للفكرة القومية كفكرة عربية جامعة، وللوحدة العربية كهدف عربي مشترك، بزعم تنكرها للإسلام وعدائها له، وعزل العرب عن بقية المسلمين ووضعهم في مواجهتهم، فلا مفر من تخليهم عنها . وقد قال الخميني عام 1989 لمجلة “اليوم السابع” الباريسية: “إن الحركة القومية العربية هي، بمختلف فصائلها، حركة صهيونية” . بعد مذهبة السياسة، التي تشق العرب والمسلمين دينياً وتضع بعضهم في مواجهة بعضهم الآخر، والعمل المستميت لمنع قيام مركز ثقل عربي يستقطب أمته ويدخل شيئاً من التوازن إلى العلاقات بين دولها، بدأت الثورة الإيرانية حربا منظمة ضد الفكرة القومية العربية، واستغلت تراجعها كمبدأ وكسياسة عقب هزيمة حزيران، فقدمت بديلاً وهمياً لها هو إسلامها، الذي تمتع ببعض الجاذبية في الأوساط الشعبية العربية، المقهورة والمستضعفة، الراغبة في الانتقام من أعدائها الغربيين والصهاينة، ولا تجد لدى حكوماتها القدرة على تأمين حقوقها أو الثأر لها، وصدق قسم واسع منها ما قالته خطب وتصريحات نارية أوهمتها أن إيران لا تريد شيئا غير أن تكون الناطق باسم الإسلام، المنافح عنه بالغالي والرخيص، الذي ينفذ إرادة المسلمين ويحقق رغباتهم، وأن الولاء لإيران ليس نقيض ولاء العرب لوطنهم، بل هو ذروته السامية ومنزلته الأعلى . إنه ولاء المسلم المظلوم لقوة إسلامية لا غاية لها غير رد الظلم عنه وحمايته، بعد ما تخلت عنه دوله وسلطاته وأوصلته إلى درك لا يحسد عليه . بحجة أولية وقداسة الرابطة الإسلامية، أنكرت إيران رابطة العرب القومية وحاربت فكرتها، واعتمدت سياسة تدخل مفتوح في بلدانهم، وأقنعت قطاعات منهم أنها إنما تفعل ذلك لصالحهم وليس لمآرب خاصة أو أنانية، إذن، فإن الاعتراض على تدخلاتها يعد ضرباً من الإضرار بمصالح المسلمين يصل إلى حد الاعتراض على الإسلام ذاته، ويحول بين دولة راغبة في الجهاد من أجل أمتها الإسلامية وبين تحقيق مقصدها النبيل هذا .
3- تعلن إيران بلا مواربة رغبتها في مفاوضة أمريكا على كامل الإقليم العربي، المشمول برعايتها من العراق إلى المغرب الأقصى وموريتانيا، فليس من حقه التفاوض نيابة عن نفسه، ولا يحق لأية دولة عربية التفاوض نيابة عنه، مع واشنطن . الدولة الوحيدة القادرة على خوض غمار تفاوض فاعل، وبشيء من الندية مع أمريكا، هي إيران، التي ستحدد الشكل النهائي والمتوافق عليه لعلاقات الإقليم العربي مع العالم عامة والغرب خاصة، ولنمط وطبيعة دورها المستقبلي فيه، الذي إن أقرته أمريكا وقبلته مرت علاقاتها مع دول المنطقة بعلاقتها مع إيران، ونشأ بناء سياسي من ثلاثة طوابق، تحتل أمريكا طابقه العلوي، وإيران طابقه الأوسط، وينزل العرب إلى قبوه، فلا يصعد أحد منهم إلى الطابق العلوي من دون المرور بإيران، ولا يعود أحد من الطابق العلوي إلى القبو من دون اجتياز الطابق الأوسط . بقول آخر: إن تهميش العرب اليوم، الذي تحرص إيران عليه أشد الحرص وترعاه عبر إقامة تكتلات عربية متنافسة، سيتوطد وسيترجم إلى علاقة أمريكية/ إيرانية طويلة الأمد، تعترف لطهران بدور إقليمي مهيمن، يحقق واحداً من أكثر الأهداف الأمريكية/ “الإسرائيلية” حيوية، هو بقاء الدول العربية ضعيفة ومتفرقة، وإثارة النعرة المذهبية فيها وفي ما بينها، وبقاء الأمة العربية، التي لعبت إيران دوراً خطيراً في تحويلها إلى مفهوم وهمي أكثر مما هو حقيقة مجتمعية / سياسية / ثقافية تاريخية، هامشية وطرفية في منطقة ستكون إيران مرجعيتها الإقليمية، المعتمدة أمريكياً، وإلا تم تقديم العرب حطباً يشعل نار الخلاف بين الدولتين .
هذه هي مقاصد إيران، فأين هي مصلحة العرب فيها؟ أين مصلحة العرب في منع إقامة قوة قومية قائدة في المجال العابر لدولهم الوطنية؟ أين مصلحة العرب في استبدال الرابطة القومية بخلافات وصراعات مذهبية تشق صفوفهم وتثير تناقضات عدائية بينهم تورطهم في احتراب داخلي واسع، يمكن أن يغطي مجمل رقعتهم القومية، المعلن منه مدمر والمضمر قاتل، هو نقيض دورهم ومصلحتهم؟ وأين مصلحة العرب في الانضواء تحت أجنحة دولة شقيقة دينياً، لكنها دولة أجنبية في ما عدا ذلك، تنظر إلى مصالحهم بعين النقص وإلى مصالحها بعين الأولية والكمال، وترى فيهم مجرد مطايا إلى مآربها؟ أخيراً، أين مصلحة العرب في السير وراء دولة تحفل علاقاتها مع العالم بمشكلات وأزمات لها أول وليس لها آخر، تحملهم علاقاتهم معها بلاوي ومصائب لا سيطرة لهم عليها وليسوا أصحابها الأصليين، تضاف إلى مصائبهم وبلاويهم، التي عجزوا طيلة عصرهم الحديث عن التخلص منها، علما بان قيادة إيران تفتعل مشكلات مع العالم، لاعتقادها أنها تعينها على إدارة أزماتها الداخلية، والسيطرة على محيطها العربي .
في الموقف العام من العرب، ليس هناك أي تناقض حقيقي بين إيران والغرب، وإن مانع الغرب تسليم الإقليم العربي لها وسعى إلى إقلال حصتها منه . إيران والغرب ضد وحدة العرب، وهما معا ضد بروز مركز ثقل قومي عربي، ولهما معا مصلحة في تعثر تنميته وتقدمه، لأن نجاح تنميته يزيد وزنه الإقليمي والدولي، ويقلص حاجته إلى طهران وأمريكا وقدرته على حماية نفسه منهما، ولهما مصلحة مشتركة في ضعفه وعجزه، وفي ضعف مجتمعاته وانقساماتها . أخيراً، أليس لأمريكا مصلحة في تعزيز المواجهة المذهبية داخل عالم الإسلام؟ ألا تراهن على هذه المواجهة وترى فيها سبيل خروجها من مأزقها الإسلامي الراهن؟
لا نريد معاداة إيران، فهي جزء من نطاق أمن وحماية أقامه الإسلام حول العرب . لكن إيران تعادينا، وتشق صفوفنا، وتحل أفكاراً تمزقنا محل الأفكار التي تجمعنا، وتسعى إلى مقايضة تاريخية مع الغرب على حسابنا، ستقلب، إن نجحت، تاريخنا وواقعنا رأساً على عقب . لا نريد الشر لإيران . هل تريد هي الخير لنا؟
نقلا عن "الخليج" الإماراتية