لحج نيوز/بقلم: د.طارق عبد الله ثابت الحروي -
مع قبول قطاعات واسعة من الشعب اليمني على توقيع المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية دخلت السياسة اليمنية مرحلة جديدة، ستكون بمشيئة الله تعالى وعونه الأحسن منذ العقدين الماضيين، وعلى مدار الفترة المحصورة بين عامي (2007- 2011م) مر المشهد السياسي اليمني بالعديد من المنعطفات المهمة الرئيسة التي شكلت البيئة السياسية المحيطة بواحدة من أهم المحطات الرئيسة في تاريخ اليمن المعاصر قاطبة، ضمن إطار إرهاصات الصراع الصفري الأكثر حدة وخطورة الدائرة رحاه بين التيارين الوحدوي والانفصالي منذ توقيع اتفاقية عدن عام 1989م؛ وهو ما يمكن إعادة بلورة بعض أهم معالمه الرئيسة؛ من خلال مرحلتين رئيستين، الأولى برزت بعض أهم معالمها الرئيسة في العام 2007م في أعقاب انتهاء الانتخابات الرئاسية والمحلية عام 2006م عندما توصلت أطراف العملية السياسية تحت مظلة ورعاية المحور الأمريكي- الغربي إلى اتفاق مبدئي يقضي بضرورة إعادة استيعاب كافة المطالب الرئيسة للمعارضة اليمنية وملاحظات الاتحاد الأوربي الخاصة بإصلاح منظومة العملية الانتخابية ضمن إطار وطني تشارك فيه جميع تيارات وشرائح وأطياف المجتمع ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية...الخ- منها- بوجه خاص- بصورة بشرت بنهضة سياسية تحت مظلة المؤسسات الشرعية القائمة؛ تتوافق من خلالها هذه القوى على برنامج عام للإصلاح في البلاد، وبما يكفل نقلها نقلة نوعية نحو الديمقراطية المنشودة، التي ستؤمن لها عملية الانتقال المرنة والآمنة المنشودة إلى مصاف الدولة المدنية الحديثة، باعتبارها المدخل الأساسي لولوج مرحلة التنمية الشاملة والمستدامة المنشودة.
-على خلفية ما أبدته قيادة التيار الوحدوي من استعداد تام منقطع النظير للمضي قدما في هذا الطريق، سيما في ضوء سلسلة الدعوات والمبادرات والخطوات والسياسات الإجرائية الرئيسة التي أطلقها الرئيس الصالح، ابتداء من إعلان بنود البرنامج الانتخابي لرئيس الجمهورية؛ بما تضمنته من أبعاد ودلالات مهمة بهذا الشأن، ومرورا بالإعلان عن مبادرات مهمة وجريئة لإجراء تعديلات دستورية،... في اتجاه إصلاح المنظومة السياسية، وصولا إلى طرح مبادرته الأخيرة في ملعب المريسي بصنعاء التي أبدء من خلالها استعداده الكامل للدخول في حوار وطني لتغيير شكل نظام الحكم برمته وتعديل مواد الدستور كلها،...، وانتهاء بمبادراته المتكررة باستعداد الحزب الحاكم تقاسم مقاعد الحكومة مناصفة مع المعارضة السياسية...الخ، إلا أن العديد من الأطراف المعنية ضمن نطاق حدود السلطة والمعارضة وخارجهما المنتمية للتيار الانفصالي وأجنحته المتطرفة منها- بوجه خاص- حالت دون ذلك بكل السبل المتاحة، بصورة أفضت إلى تعطيل مجرى العملية السياسية برمتها، سيما بعدما استطاعت أن تتجاوز سواء ورقة الاستحقاقات الدستورية بشقيها النيابي والمحلي، الواجب إجرائهما معا في الشهر الرابع من العام2009م، عقب نجاحها الساحق في توقيع اتفاق فبراير الذي بموجبه تم تأجيل الانتخابات سنتين، تحت مبرر عدم جاهزيتها لخوضها، أو الحيلولة دون إجراء الانتخابات النيابية والمحلية في موعدها المقرر في الشهر الرابع من العام 2011م.
-في حين أن المرحلة الثانية بدأت منذ الشهر الرابع من العام 2011م؛ فهي إن كانت أقصر عمرا، إلا أنها كانت الأكثر حدة وكثافة في طبيعة ومستوى ومن ثم حجم الفعاليات من قبل مختلف القوى السياسية والمجتمعية والتفاعلات البينية الجارية فيما بينها، وجرى ذلك (قبل/ بعد) التوقيع على المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية في الشهر الحادي عشر من العام 2011م، باعتبارها خارطة الطريق الجديدة الأكثر أهمية وحيوية ومن ثم قدرة على إخراج البلاد برمتها من أتون الأزمة الحالية التي تعيشها.
-وضمن هذا السياق يسعنا القول ومن ثم التذكير إلى كل صاحب عقل وقيم وطنية وأخلاقية ودينية صغيرا كان أم كبيرا بأن الجانب السياسي لهذا الموضوع بأكمله يجب وليس ينبغي أن يظل مطروحا علينا بقوة، ليس باتجاه تحديد المسئولية الكاملة الملقاة على هذا الطرف أو ذاك التي أوصلتنا إلى ما نحن عليه في هذا اليوم فحسب، بل- وأيضا- في ضرورة المحاولة الجادة للإجابة على مضمون التساؤل المحوري الأكثر أهمية وإلحاحا لا بل وخطورة على حاضرنا ومستقبلنا برمته، والذي مفاده " هل نحن بالفعل نسير باتجاه العودة إلى ما كنا عليه- تقريبا- في المرحلة الأولى- أنفة الذكر- التي تمهد أمامنا الطريق واسعا للعودة السريعة والآمنة إلى المؤسسات الشرعية القائمة، كي تتولى قيادة عملية التغيير المنشودة في اليمن، على خلفية ما تمثله خارطة الطريق الجديدة (المبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية المزمنة) من مؤشرات ودلالات بهذا الشأن؟ أم إننا سوف ندع المرحلة الثانية بكل تداعياتها وإرهاصاتها تتمدد إلى الحد الذي تهيمن فيه على معظم أقوالنا وأفعالنا في المرحلة القادمة وما بعدها، بدون أن نحرك ساكنا، بصورة تفضي إلى أن يبقى الشارع والإعلام، والمشاريع والمصالح المحلية والخاصة، والمواقف الدولية والإقليمية هي المحددات الرئيسة الحاكمة لمسارنا ومستقبلنا إلى ما لا نهاية؟
-ومن هذا المنطلق- أيضا- نود التنويه إلى أن حزب المؤتمر الشعبي العام الحاكم في اليمن كان ومازال عليه واجبات وطنية خاصة، باعتباره يمثل حزب الأغلبية داخل الساحة السياسية (وليس الغالبية الشعبية) من ناحية، وبالتالي يصبح عليه بموجبها دفع تلك النوعية من الضرائب السياسية، بسبب تأخره في إجراء عملية الإصلاح السياسية الشاملة حتى وإن كانت بمعايير الحزب نفسه التي تقوم على مبدأ التدرج والخصوصية الفكرية والسياسية...، وبغض النظر عن طبيعة ومستوى ومن ثم حجم المعوقات والعراقيل التي فرضتها البيئة الداخلية والخارجية المحيطة وحالت بالنتيجة دون حدوث أية خطوة حقيقية يعتد بها في هذا الأمر، فمع كل الأدوار التي لعبها الحزب والانجازات التي حققها ليس في التأسيس لحالة الانفتاح السياسي فحسب، بل وأيضا بقائها واستمرارها لهذا اليوم، فإن ما لدينا من تشوهات جزئية وكاملة في النظام السياسي الحالي ومن ثم من اختلال كبير في الحياة السياسية- الحزبية ومن ثم في صيغ التوازن القائمة بين القوى السياسية إلى الدرجة التي خلقت ووسعت طبيعة وحجم المسافة القائمة بين حزبي المؤتمر الشعبي والتجمع اليمني للإصلاح- من جهة- وفيما بينها وبين كلا من الحزب الاشتراكي والأحزاب الأخرى- من جهة ثانية- قد جمدت العملية التنموية بشقها السياسي برمتها وحالت دون وجود أية فعالية في اتجاه تجديد عروق الأحزاب والدولة بدماء ومهارات وأفكار جديدة على نحو مستمرة، بصورة أفضت- في نهاية المطاف- إلى حدوث ومن ثم استمرار تنامي حالات الفراغ الحادة في الواقع السياسي برمته، والذي سعت قوى أخرى صاحبة مشاريع سياسية مناوئة ومناهضة لقيام الدولة المدنية الحديثة وراء محاولة شغله بشتى السبل المشروعة وغير المشروعة.
-ومما لا شك فيه أنه بالرغم من أن الحزب الحاكم قد تنبه لمثل هذا الأمر منذ فترة ليست بالقصيرة تزيد عن عشر سنوات إلا أن عملية التجاوب الشاملة معه كانت بطيئة على المستويين الحزبي والرسمي، جراء غلبة كفة القوى المناوئة والمناهضة لها على كفة القوى الإصلاحية والتحديثية التي استطاعت أن تشق طريقها الآمن والسهل لكن في الطريق الوعرة والصخور الصلبة، في ضوء بروز نماذج حية رئيسة ومؤشرات مهمة للنهضة داخل مفاصل الدولة أنبرى لها قيادات وعناصر التيار الإصلاحي التحديثي الجديد في السلطة بدعم ومساندة كاملة من لدي التيار الوحدوي، سيما في ضوء وجود تراث شبه زاخر لدي قيادات الحزب وعناصره من المصداقية الناقصة كان وسيظل يلاحقها لسنوات عديدة مقبلة، بصورة تتطلب إلى قدر كبير جدا من الشجاعة والمرونة في اتخاذ بعض القرارات المصيرية التي تصب- في نهاية المطاف- في خدمة المصلحة الوطنية العليا، على أن تسبق في البعض من هذه القرارات كافة القوى الأخرى، كما حدث على سبيل المثال لا الحصر بالنسبة للدعوات والمبادرات والأطروحات التي أطلقها الرئيس الصالح لشركائه في العملية السياسية أو لقرار القبول بالمبادرة الخليجية وآلياتها التنفيذية التي كانت في الجزء الأكبر والمهم منها خلاصة لأطروحات الحزب الحاكم وقياداته الوطنية، ويسري هذا الأمر على المصداقية والجدية ليس في تطبيق المبادرة من جهته فحسب، بل وأيضا والحرص على إنجاحها بتوفير كافة الأجواء اللازمة- أولا- والخوض في مهام إعداد المسرح السياسي وإعادة تأهيل الحياة السياسية- الحزبية وحزب المؤتمر منها- بوجه خاص- بما يرقى به إلى مستوى متطلبات المرحلة القادمة.
-ولكن في نفس الوقت فإن الإصلاح السياسي المنشود لا يقع عبأه على عاتق الحزب الحاكم لوحده، وإنما يسرى كذلك على كافة مؤسسات الدولة ومنظمات المجتمع المدني والقطاع الخاص التي بات ولادتها على هذا النحو وإعادة تأهيل الموجود منها؛ بما يتناسب مع متطلبات المرحلة القادمة وما بعدها، ومن ثم نموها وتطورها بصورة طبيعية أمرا ضروريا وملحا لا غنى عنه، كي تتقاسم مع بعضها البعض كامل المسئولية الوطنية وتبعاتها بحيث تشارك بفعالية واقتدار في بناء المستقبل المنشود.
-وكذا سيكون من المفيد جدا للمصلحة العامة أن تتحمل جميع منظمات المجتمع المدني والأحزاب المعارضة منها- بوجه خاص- مسئوليتها كاملة ليس عن استمرار تنامي حالات البطء الشديد الحاصل في الإصلاح السياسي على مدار العقدين الماضيين فحسب، بل وأيضا في الحاضر والمستقبل، في حال ظلت ممتنعة عن رفد ميادين العمل الوطني بقيادات شابة جديدة أو تقديم أفكار وبرامج بناءة وجديدة بصورة منتظمة ومستمرة للتعامل مع كافة مشكلات الوطن، كي لا تبقى تدور عند نطاق حدود رد الفعل التي يغلب عليه الطابع السلبي، جراء استسلامها شبه الكامل لمصيرها المحتوم وللقيود التي وضعتها بنفسها وعطلت حركتها في هذا الاتجاه، مكتفية فقط برفع الشعارات العامة وكيل الاتهامات العامة، مقتنعة بتقمص دور الضحية والجلاد أكثر منه الشريك، على خلفية مساعيها الدءوبة وراء محاولة الحصول إما على مكاسب شخصية بحته أو مكاسب تخص كل حزب وجماعة سياسية على حدة، باسم الوطن والشعب التي تدعي زورا وبهتانا تمثيله، سيما أنها في نفس الوقت ظلت تعاني فيما بينها من استمرار تنامي حالات العجز المزمنة ليس في التوصل إلى برامج عمل تنفيذية مشتركة فقط، بل وأيضا للوصول إلى صياغة وبلورة رؤى موحدة للإصلاح العام في البلاد.
-وفي الحقيقة أني لست هنا بصدد توزيع اللوم بين السلطة والمعارضة على مراحل مضت، بل على ما نحن فيه وما سيأتي، فالأساس الذي يجب وليس ينبغي التركيز عليه في مقالي هذا؛ هو وجوب أن يبقى موضوع الإصلاح في اليمن بحد ذاته محورا رئيسا ومهما للجميع، كي يتسنى لنا تحديد طبيعة ومستوى ومن ثم حجم المسئولية الوطنية والتاريخية الملقاة على عاتق كل فرد وجماعة، فالديمقراطية بحد ذاتها ما هي سوى شكل من أشكال نظم الحكم وظيفتها الأساسية تتمحور في كيفية جعل الدولة والمجتمع أكثر كفاءة وفعالية في تحقيق أهداف المجتمع، ومن هنا يسعنا القول أنه وسط هذا الضجيج الهائل الذي يشهده المسرح السياسي اليمني على مدار العقدين الماضيين لا نكاد نستمع إلا نادرا إلى أحاديث قيمة تقوم على دراسة جدوى لها علاقة وثيقة الصلة بطبيعة الثوابت والأهداف الوطنية العليا وسبل الوصول إليها ومن ثم طبيعة وحجم التكاليف التي سوف نحتاجها...الخ، سيما أن أية أحاديث تدور عن ازدهار المجتمع أو الأمن والأمان لا يعد حديثا عن الأهداف والسبل، بل هو نوع من الأماني والطموحات أو الرغبات ليس إلا، لذلك فنحن بحاجة ماسة إلى وقفة طويلة مع ضمائرنا المرتبطة بالله سبحانه وتعالى سائلين أنفسنا أمامها على الدوام ما هو الخيار الأفضل لليمن دولة وشعبا التي ستظل تنظر إلى قياداتها في الحكم والمعارضة (وخارجهما) وتنتظر منهم ما هو أفضل بكثير مما يستمعون إليه.
-وختاما يجب الإشارة إلى أن وجود الموضوع السياسي بحد ذاته، هو وحده الكفيل بجعل أية أحاديث عن شكل النظام السياسي له معنى، ويجعل من العملية الديمقراطية أداة فعالة للحكم، ويعطي الأطراف المختلفة في العملية التنموية والسياسية فرصا متعددة شبه متساوية وايجابية لإعادة النظر الجاد للقضايا الخلافية العالقة –هذا من جانب- ووجود قوى متوازنة نسبيا ومتنوعة مؤهلة؛ يشارك فيها كل أطياف وشرائح وتيارات المجتمع ترتقي بأهدافها وسياساتها وتوجهاتها إلى مستوى متطلبات المرحلة سوف يخلق نوعا من حالة التوازن المرغوبة الأكثر أهمية وإلحاحا في الساحة السياسية اليمنية- من جانب أخر.
-باحث في العلاقات الدولية والشئون الإستراتيجية
-كاتب ومحلل سياسي
[email protected]
والله ولى التوفيق