لحج نيوز:- - - عبداللطيف الخمسي
فمن غير المجدي إذن البكاء على الماضي، أو القيام بترتيب علاقة ميكانيكية بين الإسلام والسياسة باسم الحداثة المغدورة (modernité trahie) كما أنه من الضروري استيعاب فكر نقاد الحداثة المعاصرين في عالم الغرب في أفق تأسيس وعي حداثي بشروط وأسباب قيام الحداثة (بمفهوم التعدد) وفهم تجليات اللاحداثة العربية وتمظهراتها السلبية خصوصا في ظل ثقافة العولمة وعودة التيارات السلفية إلى الواجهة السياسية، وهو الأمر الذي يكرر تجليات إخفاق آخر لتجربة "الحداثة العربية".
"فالحداثة تفكر في ذاتها تفكيرا تاريخيا لا تفكيرا أسطوريا" بودريار.
للحداثة تاريخ. بل إنها تجربة تاريخية مريرة عرفتها المجتمعات الصاعدة. وهنا تطرح مجموعة من الأسئلة: هل لكل مجتمع حداثته، وبالتالي هناك فهم خصوصي للحداثة؟ أم أن هاته الأخيرة هي النموذج الغربي أو هي نموذج واحد عرفه الغرب؟ وبالتالي لا مفر من اتباعه؟
إن الفهم الخصوصي للحداثة والتصور النموذجي لها لا يختلفان في العمق لأنهما يفتقدان التاريخية وجدلية الكوني والخاص في حياة الشعوب. يمكن القول إذن بأن إخفاق الحداثة عربيا يعود لسوء الفهم والاستيعاب قبل التطبيق. كما أن التفكير الجدي في الحداثة لا يمكن أن يكون إلا حداثيا، إذ أن منطق الحداثة هو منطق جدلي يخضع لعملية احتوائه القديم وتجاوزه، وقد يكون الخطاب العربي حداثيا لكنه في العمق يحمل بذور التراجع وعوائق الوجود إن هو افتقد للتاريخية. ويمكن القول بأن المرحلة تقتضي ليس رفع شعار الحداثة فقط بل الكشف عن عوائقها، أي لماذا أخفق التحديث العربي؟ وهل المشكل في البنيات القائمة ماديا أم في العقل أم في حضور التراث؟
هنا يكون من الضروري بالنسبة للمثقف العربي الانتقال من نقد الحداثة على الشاكلة الغربية (هابرماس، بودريار، الآن تورين، ليوتار..) إلى الكشف عن عوائق الحداثة وشروط إخفاقها في مجتمع فشل في العقلنة والتنمية في ظل غياب قوى فاعلة، وحضور تاريخ دائري مازال يشرعن ابن خلدون والنظرة الانهيارية للعالم، رغم وجود الرسملة ونزوعات نحو تجاوز التقليد، وحصول تجارب عربية ليبرالية واشتراكية وطنية. الأمر لم يعد يهم "بيانات حول الحداثة" بل نقدا تاريخيا وفلسفيا لتجارب عربية سميت تجارب حداثية. فالحداثة إذن ليست مجرد مفهوم بل هي تحول تاريخي وفكري حصل لبعض الشعوب. بل هي تشكل نمطا من المعرفة والوجود يصعب استيعابه وتطبيقه دون فهم الشروط الذاتية لمجتمعات ما زالت تعيش التخلف والتقليد. ولو كانت الحداثة مجرد مسألة تطبيق لكانت إمكانية تجاوز أطر التبعية والتخلف مسألة سهلة. فالمشروع الحداثي الأصيل هو الذي يحتكم للمعايير الكونية وفق المعطيات الخاصة، لا الاحتكام للخصوصية الضيقة التي لن تزيد إلا من تكريس التقليدية.
إن جدلية الكوني والخصوصي عبرت عنها تجارب تاريخية معينة مثل تجربة اليابان أو الصين. فتوفر شروط قيام حداثة رأسمالية في اليابان جعل هذا البلد يقطع مع مرحلة الاستبداد الأسيوي، والأصل في ذلك هو حضور قوي لوطنية تاريخية حملت لواء التنوير واستطاعت أن تفهم علميا إشكالية الحداثة، وقوة "الآخر" وفق الإمكانيات التاريخية للشعب الياباني. كما أن التجربة الصينية هي تجربة إبداع حداثة خاصة لا تطبيق نماذج. لقد كان التنوير يسبق مطلب التغيير، والرغبة في التحرر والعقلنة والتطور تسبق العدوانية اتجاه الآخر. فلقد عبرت "ثورة الميجي" عن بداية الاندماج الياباني الإيجابي في النسق الكوني.
وهكذا أسست القوى الحية الوطنية والعقلانية رأسمالية مستقلة غير منفصلة عن التقاليد اليابانية وأخلاق المجتمع الشرقي مما قوض أطروحة "الشرق المتخلف" الاستشراقية. كما أن توفر الصين على شروط ذاتية جعلها تتجاوز عصر الاستبداد وتؤسس نظاما اقتصاديا اشتراكيا متحررا. معتمدة في ذلك على إمكاناتها الخصوصية وقدرة فئاتها المثقفة على رصد الأبعاد الأصيلة في المجتمع الصيني.
إن التجربتين (تجربة اليابان، وتجربة الصين) اعتمدتا الطابع الخاص للمجتمع الشرقي، لكن على أرضية التواصل مع الكوني. وتوفر إنتلجنسيا عقلانية، وطبقات صاعدة وحركات قومية متنورة، ودين منفتح يكثف رؤية فلسفية للعالم؛ كل هذا ساهم في تأسيس حداثة نوعية عميقة أصبحت نموذجا يحتذى يبدأ بالوعي التاريخي والنقد العلمي لواقع التخلف وترجمة فلسفة الأصالة، ليس كجواهر وماهيات وأساطير بل كقدرة على بناء علمي للقديم وفق الجديد.
وبالمقارنة يمكن أن نقول بأنه لا وجود لمشروع حداثي متكامل، في الوطن العربي والإسلامي منذ محمد علي باشا إلى حدود الساعة، وكل ما هنالك هو تجربة تحديث مبتورة ساهمت في إثراء التبعية وعودة القبيلة والمكبوت الديني. وطابع هذه التجربة هو غياب شروط ذاتية للتغيير، وهيمنة فئات ونخب كثيرا ما تحن للتقليد رغم رفعها لواء الحداثة، ولقد فهمت أن تجربة الحداثة هي مجرد استلهام للنموذج الغربي. وحتى رد الفعل على الهزيمة والانفتاح والرأسمالية أصبح يتأسس على منظور خصوصي.
إن رهان النخب العربية في التحديث، لا يكثف إلا النزوع اللاتاريخي في اتجاه الحفاظ على الوضع القائم أو التوفيق بين الحاضر والماضي وفق منظور لا جدلي، يبسط إشكالية التغيير والتنمية والتنوير، دون أية قدرة على نقد الآليات التي تشرعن التخلف يوما بعد يوم. هناك إذن ضمور فلسفي بخصوص فهم هذه النخب لإشكالية الحداثة. أفلا يمكن الكلام عن مشروع الحداثة إلا من داخل التراث ونعلن عن حداثة خاصة؟ وهنا يقول محمد أركون: "فالحداثة في رأيي مفهوم ينتمي لكل الأزمان. وكل عصر من العصور التاريخية له حداثته وهناك لحظات قوية جدا في التاريخ تمثل لحظات الحداثة. إنها لحظات الذروة. وأنا أعرف الحداثة على الشكل التالي: إنها الموقف المتوتر واليقظ الذي تقفه الروح البشرية أمام الواقع والتاريخ الذي يولده البشر في المجتمع أو على هيئة المجتمع"(>). وقد حاول المفكر المصري أنور عبدالملك الدفاع عن الخصوصية الشرقية مع أن اشتداد الهيمنة العالمية في ظل الرأسمالية لا يفرض إلا التفكير في كيفية الخروج من التبعية وفق الشروط الكونية المعطاة.
إن إرادة القطع مع التراث بخصوص تجربة الحداثة يعد بعدا من أبعاد التفكير الحداثي. ولكن منطق التقليد، ليس هو وضع الحداثة في إطار نسبي وتاريخي يخص كل شعب على حدة بعيدا عن النموذج الأعلى، بل هو القول بأن الحداثة لا يمكن أن تتأسس إلا من داخل التراث. وذلك مجرد إنتاج وعي خصوصي أزموي ينسى طبيعة النسق الكوني المتميز بقوانين صارمة.
وهذا التفكير ذاته غير تنويري وغير حداثي بل يعوق الحداثة وكل إمكانية وعي بعوائقها الذاتية والموضوعية. فبين الخصوصية الضيقة والانفتاح المطلق على الآخر، ينهار كل وعي فلسفي- تاريخي بإشكالية الحداثة باعتبارها في حاجة لتأصيل فعلي عقلاني بعيدا عن أطروحة الأصل المطلق أو التغريب الجارف للذات. والمسألة في جوهرها هي وعي بالزمان والرغبة في تملكه على أساس مقولة التقدم والتغيير، ولكن في المنطق التقليدوي تتداخل الأزمنة وتتلاشى العلية، فيصبح التأخر هو التقدم، والماضي هو الحاضر، والتراث هو الحداثة، وتلك هي دراما خطاب "الخصوصية الشرقية". فهل نقول إذن ما قاله د.حسن حنفي عن الأصالة: "إذ أنها لا تعني السلفية فقط أي العودة إلى الماضي على حساب الحاضر وضد التوجه نحو المستقبل بل تعني تأصيل الحاضر والمستقبل في الجذور التاريخية، لذلك كانت الحركة السلفية عند ابن تيمية حركة تجديد ونقد وتأصيل".
إن فلسفة العصر الحداثية تفترض نقد التراث بشدة واعتبار أن التأصيل الفعلي للحداثة لا يتأسس إلا بالوعي بضرورة القطع الجدلي مع التراث. والحداثة ذاتها لا يمكن التفكير فيها إلا حداثيا، والرجوع لمرجعية التراث بخصوصها يعد وهما خصوصيا يعدم إمكانية فرض فلسفة حداثية بديلة متأصلة لا تتنافى والطموحات الكونية والمرتبطة بالشروط التاريخية الراهنة. إن كل هذا يبين أن الحداثة مسألة معقدة تهم كل المجالات وفشل تحديث الفكر وتجاوز اللامعقول ومنطق التقليد، يمكن اعتبارهما السبب الثاوي خلف إخفاق مشروع الحداثة. كما أن التعامل الاقتصادي مع إشكالية الحداثة، أهمل عناصر أخرى أساسية: هي الثقافة والمخيال الاجتماعي والتراث والدين؛ إذ كيف يمكن ممارسة تجربة حداثية دون إعطاء أهمية لهذه الأبعاد الرمزية؟ ولقد كان الفهم العلموي للحداثة، سواء كانت اشتراكية أو رأسمالية، مجرد تعامل فوضوي مع الواقع يتوهم أنه بمجرد إقرار واقع اقتصادي جديد يمكن تجاوز التقليد والمنغلق، واللاعقل، وإرث التخلف والبؤس الفكري. مما يفرض ضرورة التعامل مع كل المستويات، بخصوص نقاش إشكالية الحداثة، دون تحميل المسؤولية لعامل واحد في التخلف، كما تزعم بعض التصورات العلموية.
ولعل التصور الأحادي للتاريخ كان وراء الكثير من الأوهام والمنزلقات الفكرية، بحيث يعتبر الغرب هو النموذج الوحيد الممكن، وأن الحداثة هي اتباع نفس تجربة الآخر، باسم التاريخانية أو إيمان مطلق بحتمية المراحل التي مر بها الغرب الرأسمالي.
إن الحداثة ليست نموذجا واحدا، كما أنها تنتج جدليا داخل الشروط التي يعرفها المجتمع الراغب في التنمية. والقول بمرجعية الغرب المطلقة في التنمية والتغيير أي في الحداثة هو السبب في فشل مشروع الحداثة سواء كان رأسماليا أو اشتراكيا في الوطن العربي. إن مقولة التاريخ الخطي أو المنمذج المؤسس على نظرة أحادية الجانب، وإن احتملت الجدل (فيكو، كوندورسيه، هيجل، كومت، ماركس..) تكثف إشكالا ينقلنا من التصور الفلسفي-التنويري لمقولة التقدم إلى التوظيف الإيديولوجي لها، وفق رؤية تراتبية للمجتمعات والشعوب والثقافات، من أجل سد الطريق أمام الشعوب المتخلفة في اختيار مصيرها الثقافي والسياسي والاقتصادي بعيدا عن الهيمنة. وحتى الانشداد للخصوصية من طرف النخب العربية التي قادت عملية التنمية، لم يؤد لتحصين "الذات" من الاغتراب والاقتلاع، بل إلى مزيد من اللاعقلانية والتخلف وغياب الديموقراطية، وسلطة الفرد والقبيلة، دون تغيير للبنيات القائمة وهذا هو عمق كل خطاب يقول بحداثة خصوصية. والفكر الحضاري الجديد يحاول نسج خطاب حول إمكانية تجاوز التردي الحاصل، باسم ارتباط بالشروط التي أسست الوجود العربي-الإسلامي في العصر الوسيط. وهذه محاولة إرجاع الواقع للمثال وفرض أطروحة عودة الحضارات في ظل عولمة لا ترحم التليد ولا تشرعن المشاريع الطوباوية وخصوصا المؤسسة على الماضي. كما لا يمكن نسيان أن اعتماد أطروحة ماكس فيبر (Max Weber) الأخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية" من أجل دعم نظرة خصوصية للحداثة ترجع التطور الاقتصادي للعامل الديني، لم يقد بالفعل إلا إلى التبرير الايديولوجي للخصوصية الضيقة، وهو موقف لا حداثي يغفل التمايز القائم بين تجربة الغرب المسيحي والشرق الإسلامي والكونفشيوسي. والسؤال الفيبري (نسبة إلى فيبر)، والذي يجب تقييمه، بخصوص واقعنا هو: هل ضمور العقلانية، بل غيابها، هو سبب ضمور الحضارة العربية- الإسلامية؟ وهو إشكال يهم التنوير ونقد الاستشراق والتعامل بحذر مع سوسيولوجيا فيبر.
إن الحداثة المطلوبة هي الربط العضوي بين التنوير والتغيير، أو قل بين التغيير الثقافي والاقتصادي والسياسي على قاعدة العقلنة والديموقراطية والتعامل العلمي مع الثقافة المتأصلة في المخيال الاجتماعي، مما يطرح دائما التساؤل حول الفئات المؤهلة لذلك. فلا حداثة فعلية دون قوى عقلانية- ديموقراطية منفتحة على الكوني، لها الرغبة في شرعنة الأنوار وتجاوز التقليد وفق معطيات الثقافة الوطنية، بعيدا عن التماهي مع الماضي، ولا تماهي مع الحاضر الذي يمثله الآخر، ولا التوفيق بينهما. وإلا سيبقى الدفاع عن فيبرية مقلوبة، لصالح الخصوصية، هو إطار الثقافة المهيمنة على نموذج المثقف المدافع عن حداثة أصيلة من داخل التراث والمعطى المأزوم. إننا لسنا مجبرين على اتباع نفس الطريق الذي اتبعه الآخر، وإلا سنكون مشرعنين علاقة التابع والمتبوع التي حددها ابن خلدون، ومؤكدين الفهم الاستشراقي لعالم الشرق.
إن الحداثة هي تجربة ليست ضد التقاليد والقيم المتوارثة بل هي ضد منطق التقليد. وتقليد أو اتباع الآخر لا يمت للحداثة في شيء، بل يترجم عجز مجتمعنا عن فهم أسباب التخلف.
إن اتباع طريق الآخر بشكل عفوي يكثف قدرية تاريخية نقحم فيها دون وعي تاريخي. والخصوصية الضيقة التي ترفض الآخر، ليس لأجل بناء حداثة فعلية وفق المعايير الكونية، لا تدافع إلا عن الاستبداد الشرقي ومجتمع الغرابة. فالآخر حاضر فينا لكن إبداع تجربة حداثية نوعية يجب أن يأخذ بعين الاعتبار الجدل بين الخاص والكوني. وأزمتنا الشاملة ومرور مرحلة طويلة من تاريخ هزائمي، يفرضان الالتزام أكثر بالمعارك الهامة، من تنوير وديموقراطية وبناء هوية متكاملة دون الانحسار في الماضوية ووهم الأصالة المطلقة. وتبقى عملية نقد الحداثة الغربية متلازمة مع نقد التحديث العربي على أرضية التاريخية وفهم الترابط بين الأنا والآخر، والذي لا يمكن فكه بالانحياز للغرب بشكل عفوي أو البحث عن حداثة تبريرية من داخل التراث. مشروع الحداثة إذن في جوهره عقلاني، مؤسس على النقدية وتفكيك منظومة التقليد دون عدمية قيمية أو فلسفية. وليست التجربة الحداثية مشروطة ميكانيكيا بالحفاظ على الهوية والتقاليد و"الأصيل" كما يرى المفكر برهان غليون حيث يقول: "وليس من غايات الدولة التحديثية الأصيلة القضاء على التقاليد حتى لو كانت الحداثة مبرر وجودها. ولم تنشأ الدولة التحديثية في أي مكان ضد التقاليد أو للإطاحة بها ولكنها ولدت بالعكس بحافز الخوف على الهوية والثقافة والذاتية الوطنية أو المحلية واقتناء الوسائل والأدوات الكفيلة بالدفاع عنها".
وإذا كانت علاقة القيم بالحداثة تتخذ طابعا إشكاليا ومعقدا، فإن الهوية وفق المنطق الحداثي هي عملية إنجاز وتجاوز وبناء، إذ أن تحقيق الحداثة هو تحقيق للهوية الفعلية. وبالتالي لن تكون الهوية المعطاة قادرة على إنتاج وعي ثقافي- حداثي. إذ لن تكون إلا الإطار المحدد لتاريخ تراجعي-هزائمي، مما يؤكد ضرورة بناء الهوية حداثيا، وتلك هي الحداثة على المستوى الفكري، في أفق تنوير العقل. وهنا لا حداثة دون عقلانية نقدية لا تهادن التراثوي. كما أنه لا إمكانية لتسييد المنطق الحديث دون ديموقراطية وتغيير اجتماعي لبنى مؤسطرة ومصنمة. وإذا كنا نعاني التأخر التاريخي، وهي أطروحة أثارت الكثير من الجدال، فذلك يعني أن "الأنا" العربية نفسها حملت بذور التأخر والتراجع بحكم تاريخ تميز بالدائرية وافتقد شروط ميلاد رأسمالية صاعدة، ضمن مجال تميز بسيادة الريع، وهيمنة الإقطاع وسلطة الفرد، واعتماد التنظيم العسكري كأساس للإمبراطورية بدل الإصلاح وتنظيم الزراعة وتطوير الإنتاج وخوض معركة التجارة، وهو ما حصل في العالم الغربي. فالحداثة إذن هي تحول جذري في الوضع الاجتماعي والاقتصادي، وليس مجرد اقتباس. والإيمان بمقولة التقدم مسألة تنويرية أساسية لكنه يشترط تجاوز فهم الآخر للتقدم كارتباط بنموذج واحد.
وبالتالي يمكن القول بأن التقدم مسألة نسبية كما أن التأخر معطى نسبي. فليس هناك نموذج واحد للحداثة لكن شرط الإيمان بحتمية إقرار القيم الكونية، بشكل فعلي، من قبيل العقل، الديمقراطية والعلمانية. والخصوصية الضيقة يمكن أن تجعل التأخر تقدما والتقدم تأخرا. فيختلط تاريخ الحداثة بميتافيزيقا الأصل. فلا حداثة إذن دون تبلور إنتلجنسيا حداثية، ونمط من التفكير العلمي لا يومن بالنماذج، ووجود قوى اجتماعية لها الرغبة في التحديث، على أرضية تصور حداثي.
إنها مرحلة قلق. ونحن لا نعيش أزمة حداثة بل فترة تجدد القديم والمتآكل والميثي، ولا نحيا كذلك صدمة حداثة فقط، بتعبير أدونيس، بل هيمنة التراث في كل المجالات والممارسات وهذا يهدر إمكانية تبلور العقل الحداثي. مما يفرض الكلام عن ضرورة خوض معركة تنوير حقيقي كشرط أولي لكل حداثة فكرية واجتماعية زمن هيمنة النموذج الواحد. إن إشكالية الحداثة في نظرنا تعد إشكالية مركزية، وهي عقدة ترابط قضايا جوهرية مثل: علاقة القديم بالحديث، والأصالة والديموقراطية، والتغيير.
وهنا لا تصبح الحداثة مجرد شعار بل مشروعا معقدا يتطلب في أول الأمر: نقد أوهام الحداثة الليبرالية، وإيديولوجيا خطاب حداثي تبسيطي، يقطع مع جوهر الحداثة ذاتها. وفلسفة الحداثة في مجتمعنا عليها أن تنصت للإشكاليات المطروحة، والعالقة في الغالب بالزمان الماضي والتراث ومنطق التقليد المهيمن. وقد يحاول بعض المفكرين نقد الحداثة باسم طابعها البورجوازي، وهو في ذلك يتجاهل معنى تجربة الحداثة التي أسست الفرد والمواطن، وحرية العقل. ولقد كانت الحداثة تحمل في جوفها العلمنة والديموقراطية والفردانية والمجتمع المدني والعقل كأساس لكل هذا.
إنها ثورة العقل والمجتمع القادر على ممارسة التفكير. وبالتالي لا معنى للقول بإمكانية تجاوز قيم الحداثة المعاصرة العقلانية. وقد يرفع البعض المعنى اللاعقلاني لحداثة عصر العولمة وهو في ذلك لا يدفع إلا في اتجاه تجدد هيمنة النموذج الليبرالي لا غير. كما أن هوس اعتماد فكر ما بعد الحداثة قد يساهم في تقويض المنطق الحداثي، في مجتمع ما زال يعيش طور ما قبل-الحداثة أو مرحلة التحديث المشوه. هذا التوجه قد لا يختلف في النتائج عن ما يؤدي إليه المدافع عن الإسلام، باسم نهاية الحداثة، مع أنه عاجز عن طرح سؤال جوهري هو: لماذا لم يقد الإسلام، وهو الدين الذي أسس حضارة عظيمة، إلى الحداثة والعقلانية بما هي الرأسمالية؟ وقد نحاول نقد تجربة التحديث، وتحميل المسؤولية لتوجه على حساب آخر، وبالتالي القول بأن الإسلام ليس هو المسؤول عن الأزمة القائمة، بل طبيعة التعامل مع النموذج الحداثي داخل الفكر والمجتمع العربيين، وما الإسلام إلا ذلك الدين القادر على المساهمة وبفعالية في تجربة حداثية تكون آخذة بعين الاعتبار لدور الدين والثقافة.
وهنا تندرج أطروحة المفكر برهان غليون حول الإسلام والحداثة.
إن الحداثة بلغة جان بودريار صيرورة طويلة ومعقدة، لها زمانها الخاص. وبالتالي يمكن القول بأن كل تجربة حداثية تكون مسبوقة بالوعي الحداثي. إنه تحول على صعيد الوعي، وحصول قلق تاريخي وإبستمولوجي يترجم قلق فئات اجتماعية تطمح للتحول والتغيير. فالحداثة إذن هي ضرورة وإمكانية واقعية وليست طوبي. كما أنها لا تتأسس على نظرية حرق المراحل. فهي إنجاز وليست نماذج للاستهلاك والإسقاط، كما حصل في مجتمعنا. وبالفعل، فلقد فشلت الحداثة في مجتمعنا لأنها كانت مسألة نماذج: إما الكلام عن نموذج حداثي باسم خصوصية مشرقية (المفكر أنور عبدالملك) أو نموذج اشتراكي- وطني، أو نموذج تنموي رأسمالي، وكذلك النموذج الذي يراهن على تنمية إسلامية.
إنها حداثة مفقودة الجذور.
إن كل منظومة حداثية هي منظومة جدل سلبي، بالمعنى الذي استعمله الفيلسوف هوربرت ماركوز. إنه جدل مؤسس على أرضية التجاوز لا النفي المطلق. كما أن الإيمان بتمأسس التاريخ على الانفصال والاتصال هو إيمان حداثي، ما زال غائبا في مجتمعنا المحكوم بالدائرية. ولا بد من الإشارة إلى أن أوهام "الحداثة العربية" هي: أولا: اعتبار أن النخبة هي الممتلكة لسر الحداثة والمنطق العلمي. ثانيا: اعتبار أن النموذج الوحيد الممكن حداثيا هو التنمية بمعناها الليبرالي الفج. والنتيجة كانت هي العجز عن تجاوز الماضي والمعطى. ثالثا: اعتبار أن الفكر الوضعي هو الفكر الضروري للحداثة، ولكن سرعان ما عاد التقليد والمنغلق، وتحول "الفيلسوف العربي الوضعي" إلى المدافع عن ميتافيزيقا الأصالة. وهذا التعامل السلبي مع "الآخر" وفكره كان هو السر وراء تراجع المثقف وارتمائه في أحضان الإيديولوجيات الماضوية. فوهم الحداثة هنا هو: اعتماد الآخر الليبرالي في لحظة كان المفكر الغربي يجاهد من أجل تجاوز الوضعية ونزعات اللاعقل وتحول الإنسانية نحو اللاإنسانية، في أفق إعادة الاعتبار للعقل النقدي والاختلاف، وبناء ديموقراطية فعلية.
إنه رفض مبدئي للجاهزية العالقة بمنطق التفكير في المجتمع العربي. وبالفعل، فالحداثة، على المستوى الفكري، بعد تشريع سلطة العقل، هي بناء وانبناء، وهي ليست مشروطة بالماضي ولا بزمانه. إذ هي موقف نقدي منه، وكذا من عملية استيراد النماذج من "الآخر". وإلا ستكون النتيجة مشروعا متكاملا متناسقا متجادلا مع التاريخ والعلوم. ومجتمعنا المعاصر لم يعرف الحداثة حتى في أبسط أشكالها الليبرالية. فلا الفرد (Individu) تمأسس كذات بعيدا عن الجماعة والقبيلة، ولا الطبيعة (Nature) تم الإنصات إليها ككتاب مفتوح (غاليلي) والرهان على عقلنة التعامل معها كما أكد رونيه ديكارت. بل مورس الرفض للعقل وللعلم الطبيعي، وسلطة الإنسان في السياسة، من طرف الفكر الباطني المتجدد. إن الوعي الحداثي ليس سوى الحاجة للمعرفة والتنظيم والعقلنة والتغيير بعيدا عن سلطة المغلق والتقليد أو هيمنة النماذج الجاهزة. والقطيعة مع الموروث والبائد والمنغلق هي جزء من الصيرورة التاريخية لكل مجتمع يمارس التجاوز.
والوطن العربي منذ المنطلق لم يعرف قطائع (ruptures) متجذرة لا على صعيد الفكر ولا على صعيد البنية الاجتماعية. وبقي الماضي يمارس مفعوله، بقوة. والعتيق يأخذ مكان الحديث. وهنا يكون دور المثقف الحداثي مرتبطا بالدفاع عن قيم العصر بشكل إبداعي، وتحديد الأولويات، بعيدا عن أطروحات من قبيل تجديد الماضي والتراث. وكل ممارسة نظرية من داخل التراث أو باسمه، فهي لا تمثل إلا إعاقة الفهم للحداثة نفسها كإشكالية (problématique) وكقلق (angoisse) وكإرادة في المعرفة النوعية. فما يخصنا إذن هو الوعي الحداثي، لا نماذج الحداثة ولا التقنية التي تتحول في مجتمعنا إلى مجالات لشرعنة التقليد والمنغلق، خصوصا عندما يغيب التأطير الإبستمولوجي لها.
وهذا يطرح إشكال التفكير في عوائق النظر العقلاني في المجتمع العربي. وعوض الإكثار من نقد "لا عقلانية الآخر" يكون من الضروري نقد الذات الغائبة عن مجال المعرفة والفعل، بعيدا عن إسقاط النظرة الأخلاقية على العالم واتهام العقل الحداثي الغربي بالانحلال والإلحاد والعرقية، باسم الخصوصية وضرورة المقدس. فالمسألة تؤكد جهلا بجوهر الحداثة وبالتالي لن يستطيع المثقف الخصوصي الكشف عن مفارقاتها. إن نقد الحداثة الغربية هي ضرورة فلسفية-إبستمولوجية وليست دينية- أخلاقية.
إنها مسألة خطاب عربي (ثقافي أو سياسي) مازال يبشر بحداثة سطحية أو يرفض الآخر بالمطلق. يجب التمييز بين الأسس التي صنعت حداثة الآخر والآليات التي جعلت منه قوة هيمنية. وللعقل كونيته في هذا المجال، كما للمجتمع المدني دوره، وهنا يمكن للحوار مع الغرب أن يكون داخليا تفكيكيا وليس مجرد اتهام أو دعوة للبحث عن حداثة خصوصية، قد لا تكون في بعض الخطابات إلا التقليد ودعوة للانتظام داخله باسم الأصالة والهوية. فالحداثة إذن مشروع يتطلب البناء والتقعيد الشامل وفق أسس فلسفية إبداعية ووفق نظرة جديدة للكون والحياة والإنسان، بل للاقتصاد والمجتمع والثقافة، بعيدا عن التبشير والأدلجة، لأن ذلك لا يخدم إلا قوى التقليد. ويمكن القول بأن المثقف العربي ما زال يتعامل بالانتقائية والنظرة التجزيئية والفكر التجريبي، وحتى حضور ديكارت وكانط وفيبر داخل خطابه لم يكن إلا لشرعنة إيديولوجيا محددة لا تكريس المنظور العقلاني والتأصيل الفلسفي العميق لفكر الحداثة.
إن بناء الحداثة وفكر الحداثة كانا سابقين لظهور مفهوم الحداثة. والأصل كان هو تأسيس سلطة اللوغوس داخل الدين والفلسفة والسياسة والاقتصاد وفق ترابط وحركية اجتماعية لا تذعن للتراجع أو لقوى النكوص. ولكن في مجتمعنا يتم التبشير بمفهوم الحداثة وتبرير وجوده واقعيا، دون أدنى بناء لنظرية متأصلة حول الحداثة، وغالبا ما يطرح المفهوم لمناقشة قضايا من قبيل الدين والتراث، حتى أصبحت ثنائية الحداثة-التراث أو الحداثة- الإسلام هي الناظمة لأغلب الإنتاجات الفكرية العربية والإسلامية.
إن النقد التاريخي الفعلي لمسار التجربة العربية- الإسلامية على مر التاريخ هو السبيل لإبراز معوقات الحداثة، وهنا نجد بعض الباحثين العرب يحاولون تفسير غياب حداثة عربية بهيمنة العوامل الخارجية، وهو الأمر الذي يتضح من كلام المفكر محمد عابد الجابري حيث يقول، بعد طرحه لأسباب ظهور الحداثة في الغرب: "أما بالنسبة للعالم العربي والإسلامي فلقد كان العامل الخارجي من أبرز الأسباب التي كانت وراء تقهقر الأوضاع فيه، أو على الأقل جمودها، ضمن نموذج يكرر نفسه باستمرار، ويتمثل هذا العامل الخارجي في الغزو المباشر والمدمر الذي تعرضت له المنطقة العربية انطلاقا من هولاكو إلى الحروب الصليبية إلى التوسع الأوروبي الحديث". صحيح أن العوامل الخارجية لها دور تدمير الطموحات العربية والإسلامية بخصوص تحقيق حداثة فكرية-سياسية-اقتصادية. لكن، يمكن القول بأن التاريخ العربي، على المستوى البنيوي حمل بذور اللاحداثة. فالتدمير كان من الداخل وليس فقط من الخارج. فهيمنة الفكر الباطني والغيبي، وسيطرة الدولة السلطانية بشكل مطلق، وانطباق الدين الإسلامي على السياسة، وغياب فئات اجتماعية صاعدة قادرة على خوض غمار التجارة والتبادل والعلم كل هذا جعل البنية الحضارية العربية- الإسلامية مليئة بالعوائق وبالتالي غياب أية طفرة وانتقال، ولم يستفق الإنسان العربي إلا بصدمة الآخر.
إن التفكير في العوائق الداخلية هو السبيل للبرهنة على أن القوى التي هيمنت تاريخيا لم تقد إلى الحداثة، كما أن القوى السائدة ما زالت تنتج التقليد. فعندما كان الآخر ينجز ثوراته، كنا نحن نستلذ التكرار والتسلط والتقليد، وحتى تجربة محمد علي باشا وعبدالناصر كانت محكومة بالعوائق الداخلية، وكلما أغفلنا هاته الأخيرة كلما أسسنا لنظرة لا تاريخية لمجتمعاتنا، ولن نؤسس بالتالي إلا لنظرة قومية أو حضارية ترى الآخر وتغفل الذات: إمكانياتها وحدودها. وبالتالي تم الركون لشعار الخصوصية والأصالة.
وهنا نجد الدكتور حسن حنفي يرى بأن الإسلام مليء بمقومات التقدم.. لكن المشكل في نظره بخصوص الحداثة يتمثل في الوعي القومي الذي تعرض لاهتزازات وإحباطات.. وليس في الإسلام. وهذه النظرة الأصالوية سرعان ما تصطدم بواقع الأمر، لتعبر عن ما يسمى بالمشروع الإسلامي أو المشروع الحضاري الإسلامي المستقبلي. فهناك فرق بين القول بأن الإسلام يدعم تجربة الحداثة وبين التنظير لحداثة من داخل النص الإسلامي.
فالمسألة الأولى قد تدفع نحو التنوير، على الأقل، والمسألة الثانية لن تقود إلا للتبرير للطرح التراثوي إما باسم التقدم، أو التغيير أو العقلنة. إن النص الديني نص متعدد الدلالة، وبالتالي فهو نص مؤول، وليس نظرية في الحداثة وفلسفاتها سواء كانت ليبرالية أو اشتراكية. إنه نتاج تأويل. والفكر الحداثي هو إطار هذا التأويل، وإذا كان الخطاب الذي يقدمه الدكتور حسن حنفي يحاول إعطاء الإسلام بعده التاريخي، والتنويري فهو يغفل أن إسهام الإسلام في التجربة الحداثية لن يكون إلا ثقافيا وليس من خلال المرجعية والسند المعرفي.
إن الإسلام هو جزء من البنية العامة للتخلف، وكل تأويل إسقاطي له لا يقود إلا للتراجع عن التنوير الديني فبالأحرى الفلسفي. لا حداثة إذن دون تنوير حقيقي، وهو الأمر الذي يتطلب تملك الفكر المعاصر بشكل نقدي، من أجل ضبط العلاقة مع التراث والثقافة السائدة، دون الانجرار لا إلى الآخر بشكل مطلق ولا إلى الخصوصية المطلقة. والتراث بالطبع لا يمكن أن يكون هو عنوان الحداثة المنشودة في الثقافة والسياسة والاقتصاد. كما أن الاندفاع نحو حداثة الآخر دون حس نقدي هو موقف لا حداثي، يتأسس على الانبهار، لا استقلالية الذات. وهو ما حصل في عصر النهضة حيث أجبر المجتمع العربي على الدخول إلى عالم الحداثة، دون وعي حداثي، إنه قبول الاعتراف العفوي بالآخر، وبداية انشطار الذات العربية- والإسلامية في التاريخ،
هكذا فرض علينا تاريخ الآخر بشكل مطلق: أشكال التنظيم السياسي والإداري، أنماط التعليم، السلوك، القوانين.. وهو الأمر الذي ألهم رواد عصر النهضة وأسس منظورهم الإيديولوجي للعالم. وهاهو د.طه حسين يقول في كتابه الشهير مستقبل الثقافة في مصر متسائلا بحدة المثقف الليبرالي-التنويري: "فما هو هذا الشرق الروحي؟ إن الشرق الحقيقي ليس القريب منا دون شك؟ إنه الشرق الذي كان منبع العقل الذي يزدهي ويزدهر في أوروبا، التي أخذت بأسباب العقل". والحق أن المثقف الليبرالي النهضوي كان أكثر نقدا وتاريخية ورغبة في التغيير من المثقف العربي المعاصر، الذي هيمنت عليه ثنائية تراث- حداثة، ولكن الرغبة في اللحاق بالآخر في غياب الشروط الذاتية لذلك، دفعت بالفكر التنويري العربي ليتجه، من بعد نحو التراث وأسئلة التقليد. وزادت الثورة الإيرانية من نحت هذا التوجه. لكن هذه التجربة هل كانت بالفعل تحولا تاريخيا وحضاريا بخصوص ماهية الإسلام والشرق؟ إنها بالفعل لم تكن تجربة حداثية بل زادت من تكثيف العوائق الإيديولوجية لنمو الفكر الحداثي. وعلاقة إيران بالآخر لم تكن إلا رفضا، لا تغييرا جذريا للعلاقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية في أفق حداثة شاملة، وإن حاول البعض تبرير تجربة إيران باسم الحداثة الخصوصية، وأن الإسلام يقود نحو العلمنة. هناك مخاض يعرفه المجتمع العربي والإسلامي ولكنه يوظف في الغالب في اتجاه أدلجة التراجع والهيمنة والرفض المطلق للآخر، أو التماهي معه بشكل لا عقلاني.
يجب إذن نقد التوظيف الإيديولوجي لمفهومي الأصالة والخصوصية، وإعادة بناء أطروحات الحداثة، وكما يقول ألان تورين: "إن إعادة تحديد معنى الحداثة ليس مفيدا للمجتمعات الحديثة أو السائرة في طريق التحديث وحسب. إنه مفيد أيضا للمثقفين بما يشكل وسيلة لا غنى عنها من أجل التخلص من فقدان المعنى الذي يدفعهم إلى عدم رؤية أي شيء غير الرقابة والقمع في الحضارة التقانية وإلى إنكار وجود أية قوى فاعلة في عالم لا يزال يزخر، رغم ذلك، بالمشاكل والتجديدات وبالمشاريع والاعتراضات".
يجب معرفة كيف يمكن توظيف الفلسفات النقدية الغربية في مجتمع غربي أو إسلامي يفتقد لأبسط مقومات الحداثة. وهنا نلاحظ اتجاهات عربية تسارع إلى الترويج لما يسمى بفكر ما بعد-الحداثة، عاصفة بالعقل ومفهوم الذات، والذات المفكرة، وفي ذلك تبرير إيديولوجي لمجتمع تقليدي لم يؤسس بعد حداثته، فبالأحرى الاندماج في فكر ما بعد-الحداثة والمؤسس أصلا على نقد العقل والذات المفكرة والفرد، والسلطة المعرفية والتقنية، وهي أمور لم تتحقق بعد في مجتمعنا. وما طموح المثقف الحداثي إلا إلى تأسيس عقلانية نقدية، فاعلة، مستقلة، قبل أن يتكلم عن سقوط الذات المفكرة وانهيار الحقيقة، وذوبان الفرد.
إن التعامل التاريخي مع منظومة الآخر الثقافية هي السبيل لتحقيب فكره وفق تحولاته البنيوية منذ القرن الخامس عشر إلى حدود الساعة: لحظة تبلور نظريات هيمنية وأشد تمركزا، إضافة إلى تبنين الفكر النقدي الغربي في أشكال عقلانية. ولكن عملية التحديث أو الحداثة المشوهة في مجتمعنا بقيت مطبوعة بالدائرية والهشاشة، حتى على صعيد الفكر، فكانت الإيديولوجيا مهيمنة على الفلسفة والعلم، والمغامرة تستبعد التخطيط والعقلنة، مما زاد في تغييب العقل. فكان السؤال النهضوي حول أسباب تقدم الغرب وتخلف المسلمين هو الأطروحة المركزية إلى حد الساعة والجواب دائما هو إما الأصالة أو الاندماج المطلق في الآخر أو التوفيق بينهما. لنقل أن تجربة الحداثة هي رهان النخب المتنورة، والمثقفين، وذلك لا يتأتى إلا بالربط بين تثوير الفكر وتغيير الواقع. وكل فكر يقدس التراث أو يقدس الآخر لا يقود إلا للإخفاق: إخفاق في فهم تاريخ الحداثة قبل أن يكون على مستوى عدم القدرة على الفعل التاريخي.
إن مجتمعا ما قبل-حداثي يتطلب نقد كل أشكال اللامعقول، بشكل إبداعي بدل الوقوف فقط عند نقد الذات والمجتمع الجماهيري، وسلطة المعرفة، وثقافة الموضة، والعقل الأدواتي، إذ هي قضايا تأسس النظر إليها بعمق في خطاب نقاد الحداثة منذ مدرسة فرانكفورت. لكن مجتمعنا هو مجتمع الصراع من أجل إحلال العقل ونقله من الغياب إلى الحضور. وهي مهمة التنوير الفعلي. نحن إذن لا نعيش حداثة، وبالتالي فتقعيد التفسير العلمي للواقع، في ارتباط بمقولة التغيير يعد مسألة مركزية، لا غنى عنها. كما أن نقد مفارقات الحداثة، في ثوبها الأمبريالي، والاستهلاكي يعد عنوان كل مثقف حداثي، واعي بضرورة عدم السقوط في فخ خطاب العولمة وأطروحات ما بعد الحداثة، كأننا نعيش عصر المجتمع ما بعد الصناعي الذي نظر له ماركوز، وفوكو، وتورين وإدغار موران نظرة نقدية، لا غنى عن استلهامها في ظل شروط مجتمعاتنا التابعة والمتخلفة. فكيف لمجتمع عربي أن يستوعب خطاب فلسفة موت الإنسان (فوكو، شتروس..) ويطالب بالإنسان الاستهلاكي-الحيواني (كوجيف) مع أنه ما زال مؤسس البنى على أرضية القبيلة والعرق واقتصاد الكفاف والحضور المطلق للدولة، وازدواجية التفكير؟ إن تأصيل الحداثة هو القدرة على إنجازها، كأطروحات كونية على قاعدة الخاص والمعطى، إن عملية إنجازها وإبداعها وفق مسلمات جديدة. وهنا لا يكون الفكر الحداثي إلا القدرة على تفكيك متواصل لكل المنظومات سواء المندرجة تحت شعار الكونية أو الخصوصية. فالحداثة هي واقع وتأصيلها يتطلب استيعابها جيدا، وفق منطق تاريخي وإبستمولوجي، حتى لا يصبح مطلب التأصيل مجرد انزياح نحو الماضي أو دعوة لحداثة من داخل التراث وهو الأمر الذي قد يقود لفصام تاريخي لا غير، ومن دون بناء منظور تعددي- نقدي لكل التجارب الحداثية. ومن الصعب على الخطاب الخصوصي أن يلتمس ماهية الحداثة من دون القطع مع نزعة التمركز الحضاري المشرقي.
وفي هذا السياق يندرج تصور المفكر منير شفيق، الذي يحاول جاهدا القيام بجرد نقدي للحداثة الغربية وتناول أغلب تياراتها سواء كانت أنوارية، ماركسية، أو ليبرالية معاصرة. ويوجه انتقادات لاذعة للمفكر جورج طرابشي، بخصوص مقدمته لكتاب: مبدأ السيادة لجيرار دميريت، حيث يعتبر أن الإسلام كان سباقا لمبدإ السيادة على أرضية العقد الاجتماعي بين الحاكم والمحكوم. ولعل هذا التصور يهدر أي فهم أو طرح عميق لإشكالية الحداثة السياسية، وخصوصا أن الباحث يعمل على وضع خط فاصل بين كل التيارات الحداثية الغربية والعربية وبين مرجعيته الحضارية أو "حداثته الخصوصية". ويمكن القول بأن إرادة شفيق نقض الحداثة المعاصرة لا تتوافق مع دعوته لنقد المرجعية الإسلامية والتاريخ العربي والإسلامي والتراث. وأساس كل هذا هو افتقاده ماهية الحداثة، خصوصا عندما تفهم هاته الأخيرة من الزاوية العقائدية.
إن "الأنا الحضارية" في الخطاب الخصوصي الذي يصوغه الكاتب، ليست سوى ذلك الآخر المهيمن الذي يسكن المنطق التقليدوي، وهو الأمر الذي يؤدي إلى العجز عن تقديم جواب على سؤال مركزي هو: لماذا تقدم الغرب وانهار العالم الإسلامي رغم اعتماده منذ الأصل على المرجعية الإسلامية والتراث والأصالة؟ أليست الخصوصية التي يدعو لها شفيق هي التي سادت طوال التاريخ العربي الإسلامي وحتى قبل أن يظهر الغرب كقوة وكمفهوم؟ من الصعب إذن نقد الحداثة دون إدراك ماهيتها، ومن السهل الدعوة لحداثة خصوصية دون استشراف المستقبل. والسؤال الأساسي الذي يفرض نفسه هو: كيف تكثف التيارات الخصوصية عملية تمثل عكسي للحداثة، وتتكيف وفق منطق رد الفعل مع مسارات العصر، ولو عبر لغة الدين والمقدس، من دون أن يقود ذلك إلى نزوع بروتستانتي فعلي؟
إن المنطق الحداثي ذاته يتطلب تجاوز المفهوم النموذجي للحداثة والمرتبط أصلا بفلسفات غربية إثنو-مركزية. ومن الواضح أن مقاربات الكثير من المفكرين العرب أمثال عبدالله العروي ومحمد عابد الجابري ومحمد أركون وصادق جلال العظم وبرهان غليون ومطاع صفدي ومحمد سبيلا..إلخ برهنت على أن الحداثة تشكل بحق إشكالية مركزية لصيقة بتخلفنا التاريخي. وهذا يفرض تناول هذه القضية من زاوية الإسهامات العلمية المعاصرة، من خلال تلمس مباحثها كالأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع وعلم التاريخ وعلم النفس التاريخي، في أفق تقعيد تصور حول قضايا تهم الحداثة مثل: المقدس ونظام القيم وتداخل الدين بالسياسة ولا شعور الشعوب. وبتكاثف مناهج ومرجعيات عدة يمكن لتحليل تركيبي-جدلي أن يتبلور بعيدا عن النمذجة، أي اعتماد إسقاطي لنماذج تحليلية للحداثة ولتكن لدى فيبر، أو ماركس أو هابرماس أو تورين. فالوعي الحداثي بالحداثة والإدراك التنويري لقضايا ملتصقة بها، يمثلان دعامة لكل فكر حداثي عربي ينشد البرهنة على كونيته من داخل تاريخه الخاص وليس من خلال أوهام الخصوصية العمياء والحداثوية الجوفاء.
يجمع الفكر العربي المعاصر إذن على أهمية نقد الحداثة وإعادة بنائها وفق الشروط التاريخية المعطاة، وفي هذا السياق نلاحظ نقد المفكر محمد عابد الجابري للتصور البسيط للحداثة (سواء كان باسم الخصوصية أو الكونية) حيث يقول: "الحداثة من أجل الحداثة لا معنى لها. الحداثة رسالة ونزوع من أجل التحديث، تحديث الذهنية". وهذا لا يعني سوى الوعي بصعوبة الكلام عن الحداثة دون التطرق لمجالات معقدة كالتراث وقضية التغيير الثقافي والإيمان بنسبية كل تجربة حداثية محددة. فإرادة القطع مع التصور الإيديولوجي للحداثة تمثل هاجسا أملته إخفاقات ممارسات حداثوية عربية كانت في العمق تجربة برانية وليست جوانية كما يقول الدكتور محمد سبيلا. لكن الإشكال الذي مازال يؤرق أغلب المفكرين العرب هو إشكال العلاقة بين التراث والحداثة والذي يرتبط ضمنيا بقضية الخصوصية. وإذا كانت دراسة التراث وتفكيكه والانتظام داخله وفق منظور نقدي يمثل عمق مشروع الجابري بخصوص إشكالية الحداثة، فإن د.عبدالله العروي يطرح تساؤلات وتصورات أشد إيغالا في منطق الحداثة الغربية النقدية، وفي هذا السياق ينتقد التيارات السلفية وأغلب اتجاهات الفكر العربي الذي يراهن على تحيين التراث وتجديده، إذ يقول: "فـ"لا بد له (لدارس التراث) قبل كل شيء أن يعي ضرورة القطيعة مع التراث وأن يقدم عليها". وسياق تصور العروي الفلسفي والتاريخي لا يمكن استيعابه أو فهمه إلا داخل إطار الدعوة الصارمة لتبني منطق الحداثة وبلا تردد. ولكن ما يؤكد عليه، وبعمق، هو ضرورة عدم الخلط بين مفاهيم حداثية ولتكن الحداثة، نفسها، والعقل والدولة وبين ما يجري في الواقع العربي من وقائع وأحداث وتمثلات، في أفق تجاوز المفارقة التي تحكم العقل العربي وأساسها عدم التمييز بين المفهوم المكتمل (الحداثة مثلا) والوضع العربي الما قبل-حداثي، أو الذي عرف تحديثا مشوها. فالروح العقلانية إذن تقتضي القطع مع ثنائيات لا تعرف الحسم أو مؤسسة على اللاحسم (حسب لغة جابر الأنصاري) مثل تراث- حداثة، إسلام-غرب، خصوصية- كونية، في أفق بناء منظور فلسفي- تاريخي تركيبي للحداثة ومعضلاتها، بعيدا عن ترديد شعارات من قبيل حداثة متأصلة، حداثة مغدورة، حداثة خصوصية، مشروعية خطاب العولمة، أهمية الموروث لتحصين الذات..إلخ.
فقد بات من الواضح والضروري أن التفكير النقدي في الحداثة هو جزء من الصيرورة الحداثية نفسها والطويلة الأمد. أما الدفاع عن خصوصية مغلقة أو عن حداثة خصوصية من خارج تعقدات منطق العصر، فلن يقوي إلا سلطة التراثوية المبشرة الآن بنزعة أصولية، ليست في الأصل لا تجربة تحديثية، ولا حتى "بروتستانتية إسلامية". ألم يقل ماكس فيبر: "فأهم ثمار البروتستانتية النسكية: التشكيل المنهجي والعقلاني للحياة الأخلاقية برمتها".
فمن غير المجدي إذن البكاء على الماضي، أو القيام بترتيب علاقة ميكانيكية بين الإسلام والسياسة باسم الحداثة المغدورة (modernité trahie) كما أنه من الضروري استيعاب فكر نقاد الحداثة المعاصرين في عالم الغرب في أفق تأسيس وعي حداثي بشروط وأسباب قيام الحداثة (بمفهوم التعدد) وفهم تجليات اللاحداثة العربية وتمظهراتها السلبية خصوصا في ظل ثقافة العولمة وعودة التيارات السلفية إلى الواجهة السياسية، وهو الأمر الذي يكرر تجليات إخفاق آخر لتجربة "الحداثة العربية"، وكما يقول برهان غليون: "وعندما نتحدث عن إخفاق في استيعاب الحداثة، فليس ذلك لعدم الأخذ بها، وإنما بالعكس للقول إن النظم الحديثة العلمية والمادية التي أخذ بها العالم العربي واستنبتها في تربته، لا تنتج نفس القيم ولا تؤدي نفس الوظائف التي خلقت من أجلها وكانت منتظرة منها". فمشروع الحداثة إذن هو تجربة نقد وبناء وتصور مستقبلي للزمان، وإحداث تطابق بين الذات العارفة وإرادة تمثل الكوني في أفق تكريس مقولة التقدم التاريخي وكسر طوق الانغلاق الحضاري وتحقيق التواصل النقدي مع الذات والآخر وفق جدل بين العقل والتاريخ على قاعدة الإبداع
|