لحج نيوز/بقلم:مهنا الجبيل -
منذ انطلاقة أحداث جبل دخان وامتداداتها الإقليمية، تتردد أسئلة وتغطيات من الصحافة العربية والغربية عن انعكاسات هذه الحرب ومستقبلها في العمق اليمني والحدود السعودية وامتدادها العربي والإيراني، وكثيراً ما يخوض بعض الباحثين في هذه القضايا من خلفيات منحازة أو بمعلومات جزئية لا تدرك حقيقة الأوضاع في الخليج واليمن والتداخل الديموغرافي، وطبيعة العلاقة الوجودية والإستراتيجية في هذه المنطقة، لذا فإن تفكيك هذه الأسئلة يندرج في شرح أبعاد هذه الأحداث وتداخلها، وعلاقتها المركزية بالبعد الإقليمي ومستقبل تطوراتها.
بداية كثيراً ما رددت وسائل الإعلام هذا التساؤل: هل تمتد المواجهة لتنتقل إيرانياً وسعودياً؟
ونقول بأنه إذا كان المقصود مواجهة مباشرة بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الإيرانية فهو احتمال ضعيف للغاية.. وذلك لسببين رئيسيين:
الأول يخص المملكة، وهو أنّ ما صدر من تصريحات منذ بداية العمل العسكري الحوثي، وخاصة من القيادة العليا ركّز على عدم الاندفاع في هذه الحرب والتمسك بتصفية ملفها الحدودي، من دون نقله إلى العمق اليمني، وإن كان الموقف السياسي للمملكة يدعم منطق سيادة الدولة، وهو موقف قديم لم ينشأ بأسباب حرب جبل دخان الأخيرة، وما يعزز ذلك أنّ قناعة الرياض بأن حرب دخان كانت بالوكالة لمصلحة الجمهورية الإيرانية، لذا فإن الاندفاع فيها إلى العمق اليمني هو الهدف الإستراتيجي لطهران، ولذلك فإن إدراك الرياض لهذا المغزى جعلها تضبط -وبحزم- لغة التغطية الإعلامية وتصريحات المسؤولين، متزامناً مع إدارة الحرب مع متسللين، واستخدام هذا المصطلح كان المقصود به قطع أي فرصة لتطوير المواجهة في بعديها الإعلامي والسياسي، المؤديين إلى تورط الرياض.
أما السبب الثاني فيدخل في سياق عرّاب المشروع ذاته، ونقصد به الجمهورية الإيرانية، فحسابات طهران كانت تنطلق من جر المملكة إلى حرب استنزاف طويلة المدى ذات صدى إعلامي طائفي، وهو ما جعل المسؤولين الإيرانيين يعززون لغة الحرب الطائفية، برغم أنها لم تكن حاضرة لا على الصعيد اليمني ولا الحوثي ولا السعودي، وهذا المستوى هو الهدف الذي كانت طهران تؤملّه، لكن ليس في حساباتها أن تشعل حرباً مباشرة مع الرياض، وليس ذلك من مصالحها المنظورة في استغلال تقاطعاتها الواسعة مع واشنطن في العراق وأفغانستان، إضافة إلى مستقبل النفوذ في الخليج.
وتبعاً لهذا التصور يُطرح سؤال: لماذا اندفع الحوثيون لنقل الحرب إلى الجانب السعودي؟ وفي اعتقادي أن القرار بنسبة كبيرة لم يكن حوثياً، لكنه إيراني كما قدمنا، وفقاً للمصالح التي تخدم طهران، وإن كانت الحسابات الحوثية خاطئة في البداية، وهو ما ألمح إليه مراراً يحيى الحوثي في مقابلات عديدة. أمّا الجانب الضئيل الذي يخص القرار الحوثي فهو ما نُقل عن أطراف وسيطة أنّها كانت تأمل من دخول الرياض على الخط، الخروج بمبادرة سياسية تفرض لها مساحة أكبر في مستقبل الحياة اليمنية، وتخفف من الخسائر السياسية التي قد تقدمها في نهاية الصراع. ومع أملنا الكبير أن تنتهي الأزمة كلياً، وتعود الحياة السياسية اليمنية لاحتواء كل الخلافات عبر مشروع إصلاح يمني سياسي دستوري لكل المناطق، بما فيها صعدة والمحافظات الجنوبية، إلا أن قيادات الحركة الحوثية أخطأوا الطريق بإدخال البرنامج الإيراني، وخاصة بعمقه الطائفي الخطير، لكن الباب مازال مفتوحاً، وبالذات بعد ما استطاعت كل الأطراف عزل الضجيج الطائفي الذي أشعلته طهران حول دخان الحرب.
الدور المركزي لإيران
فهل هناك احتمال لاستمرار الحرب في صورة حرب عصابات كحالة اليمن؟ هذا غير وارد في الحالة السعودية.. لماذا؟
لأن حسم الحرب في شريط الحدود هو سياسي بسياج عسكري، بمعنى أن استثمار الحوثيين في استهداف الحدود أمر وارد جداً، وقد كان موجوداً بين قطاعات من الجيش السعودي وسلاح حدوده، وبعض الجماعات القبلية قبل تسوية قضية الحدود في جدة وصنعاء، ولذلك فإن نوعية هذه الحرب ليست جديدة على السعوديين، وليست من نوع حرب العصابات، إنما هي توتر حدودي كالسابق، وهذه المرة مع جماعة محدودة وليس الدولة، ولأن جسم المعركة الأساسي قد حُسم ومعالجته سياسية وإعلامية، وتأخذ الآن طريقها إلى التراجع، لذا فإن طهران هي الطرف الوحيد المستفيد من إشعالها، فهي تسعى إلى إدامتها إعلامياً وتصعيد الخطاب الطائفي حولها.
وهذا الأمر يمكن تلمُّسه من خلال برنامج الرعاية الضخم الإعلامي والسياسي، إضافة إلى المعلومات الواردة من مصادر المنطقة لحجم الإمداد العسكري الضخم عبر البحر، والذي اختل بعد محاصرة الأسطول السعودي البحري لموانئ الحوثيين، ومع ذلك استمر الدعم التسليحي بالتقاطر، ومنها مضادات للصواريخ والطيران، استخدمتها الحركة الحوثية لأول مرة، وكانت قد أُرسلت بحراً، غير أنها اصطدمت بقرار الحصار السعودي على السلاح، ما دفع الإيرانيين إلى استئجار موانئ إريترية مؤقتة استقبلت السلاح، ثم هُرّب إلى الساحل اليمني، وتم إيصاله للحوثيين، وفق مصادر إعلامية يمنية محلية محايدة، ومع ذلك لم تُغيّر موازين الحرب. فالعلاقة الإيرانية ليست محل شد وجذب لدينا، وإنما تكمن في استراتيجية طهران في توجيه الحركة الحوثية، هل هي على غرار الفصائل العراقية الإيرانية الولاء؟ نستبعد ذلك لاختلاف الحالة اليمنية الاجتماعية وحتى المذهبية التي لم تكن ذات صلة وثيقة بالطائفية الشيعية السياسية، وإنما من ضمن المدرسة الزيدية المتحدة تاريخياً مع العرب ومدارسهم السنية، لكن سيبقى هذا التأثير فاعلاً في الحركة.
ركام الفساد السياسي
إن هذا الدعم الإيراني يعزز قوة شوكة الحوثيين، لكن ما يعزز جانب روح المواجهة في التمرد الحوثي هو ركام الفساد السياسي الذي تعيشه صنعاء، وحجم الخلل والارتجال والتشدد غير المبرر الذي مارسته السلطة في ملف الحوثيين وغيرهم في البداية، وهو إجمالاً يصب في شراسة المقاتل المقابل، وإصراره على الانتقام في بيئة جبلية صعبة تمرّس فيها مقاتل القبائل وخبرها جيداً، وقد نمي على السلاح منذ وقت مبكر.
إن العامل المذهبي طارئ، فالعلاقة بين الزيدية والشافعية ومجمل السنة في المنطقة علاقة قبول ومشاركة وتضامن وطني وأممي، بل حتى إن الحوثيين قد يكون لهم موقع في المستقبل، لكن مشكلة قيادتهم أنهم تركوا طهران تتحدث عنهم، وتبنوا، مع الأسف الشديد، لغة طائفية لا يعرفها اليمن المتحد شافعياً وزيدياً، لا يفرق بين أبناء الشعب العربي كما تفعل طهران، عرب من أتباع أهل البيت، وعرب يقتلونهم من أهل السنة، هذا الخطاب الخطير سمّم الأجواء وبالتالي عقّد العلاقة، وإلاّ فالأصل في مدرسة الشيخ بدر الدين الحوثي، وإن نزعت إلى أقوال متطرفة، هو أنها مدرسة يمنية لها خطها وحقها في الشراكة الاجتماعية والسياسية والتربوية في العقد اليمني الجامع، ولم يكن هناك تباين مذهبي شديد لديهم قبل الاعتكاف الذي التزمه بعض قياداتهم في قُم، وتبنّى عقائد الكراهية والتطرف الطائفي، ولذلك فإنه حتى النزعة المذهبية جاءت من خلال الطائفية السياسية التي تبنتها إيران وصدّرتها إليهم، ومن الوارد أن تختفي هذه الشحنات حين تسوى القضية اليمنية ذات العمق الرئيسي، وهو ما سيساهم في إخماد الشحن المذهبي في المنطقة.
طرح مُبتسر
تطرح في الإعلام الغربي قضية التعدد المذهبي في الجنوب لكون مناطق جازان ونجران والمناطق الأخرى على امتداد الحدود مع اليمن يوجد فيها أتباع المذهب الإسماعيلي، وهو طرح مبتسر لا يعرف النظام القبلي في هذه المناطق، وهناك سوء فهم في معرفة طبيعة العلاقة بين أبناء المنطقة، فالأصل في العلاقة في المنطقة كان ولايزال الرابط القبلي لعشائر المنطقة و«يام الكبرى» في نجران، التي ينتمي غالبيتها العظمى إلى المذهب الإسماعيلي، متصلة بهذا السياج القبلي المتحد جغرافياً في الحزام الاجتماعي مع قبائل المنطقة السعودية واليمنية السنية. كما أن رجالات القبيلة وزعامتها لهم روابط كبيرة مع الدولة السعودية، بل إن قسماً منهم في القوات المسلحة، وليست هناك عوامل تشكيك مطلقاً في ولائهم الوطني، بل إن الملك عبدالله بن عبدالعزيز اختار لنجران نجله مشعل أميراً لها، بدعم معلن للاعتناء بالمنطقة وتطويرها، وهو ما كان له صدى كبير لدى الأهالي، ولم تكن الحالة المذهبية متصاعدة، فالرابط القبلي المنتمي للقومية العربية كان أكبر، لكن الإيرانيين استقطبوا بعض العناصر من خلال بعض الجهات الطائفية الموالية لها، وبالتعاون مع واشنطن وأنشأوا مؤسسة سياسية تحرض وتثير القضايا الطائفية، وتحاول عزل قطاع من «يام» عن العمق العربي القبلي، مستغلة بعض التشدد والغلو في الجهة السنية، لكنها ذات تأثير محدود، ولم تستطع أن تحقق هذا الاختراق، ولا يوجد مبرر على الأرض مطلقاً من هذه المخاوف في وحدة النسيج الاجتماعي والأمن الوطني.
وفي ما يتعلق بالنظام الرسمي في البلدين، فلا أعتقد أن يشهد اختلافاً، خاصة مع بروز حقائق مهمة للبلدين من أن أمنهما الإقليمي موحد، أما الرأي العام، وخاصة النخبة المثقفة ذات التوجه العروبي والإسلامي، فهي تكاد تتفق على تقييم الحالة في خطوطها الرئيسية، وهي أن نقل الحرب إلى المملكة مخطط خطير، ويجب أن يُحبط وتُتعقب مساراته، وأن الأزمة مستثمرة من إيران تصعيداً، لكن في أصلها هي يمنية يجب أن تتحد القوى الإقليمية العربية وصنعاء على معالجتها واحتوائها. ولذلك فإن ما أظهرته وسائل الإعلام والرأي العام حتى الآن من إحباط فتيل التفجير الطائفي من خلال الحرب كشف صلابة في هذا التوجه، ووعياً ينتظر أن يتفاعل أكثر للاقتراب اليمني-السعودي في النخبة الثقافية وتعزيز الحضور والخروج من العزلة، وإصدار البيانات عن بعد، وبدل ذلك المساهمة في تقريب وجهات النظر واختراق المأزق ودفع الفعل الرسمي للتجاوب مع هذه اللغة والخطاب الذي يترجم دمج اليمن في إقليم الخليج العربي، وتعزيز المصالح القومية بهذا التكامل اقتصادياً وثقافياً، خاصة من خلال المرجعية الموحدة للمنطقة عروبةً وإسلاماً وجغرافيا وتاريخ.
المخرج الشامل من الأزمة
المخرج للأزمة كلها محصور في الداخل اليمني، وهذا لا يعني ألا تُساعد الرياض على تعزيز فرص اتحاد الأسرة اليمنية التي بات تمزيقها يضني العرب، والمهم أن تَوجُه المملكة المتوقع، هو في هذا الاتجاه المركزي للأمن الإقليمي العربي، وللشراكة المستقلة مع اليمن الشقيق القريب، ودعم اقتصاده بمشاريع استثمارية في أرضه تدعم من المملكة بمؤسسات إدارية بعيدة عن البيروقراطية الرسمية، وبأيد عاملة يمنية أنهكتها الظروف القاهرة والخلل الإداري العميق.
وسيتعزز هذا الأمر من خلال عقد جديد لليمن اجتماعي سياسي، لا بد أن يُصاغ وفق مصالحة شاملة لم تعد محصورة بين المعارضة بقيادة «اللقاء المشترك» وحسب، وليس بين الحوثيين وصنعاء، بل هي ممتدة لتشمل موقف الحراك الجنوبي الذي انطلق من عقاله، بعد سنوات من حصاد مر للشمال والجنوب، وأرتال من الفساد، والأسوأ من ذلك ألا يُريد البعض أن يعترف بكل هذه الحصيلة التي أغرت الأجنبي المتربص بأن يدخل بين الأشقاء، وهي مسألة ضرورية لا يوجد خيار آخر مقابل لها، إلا تفتيت اليمن. لذا فإن أبسط القواعد هو تقدير الخسائر من المصالح التي على كل الأطراف أن يتعاملوا معها بجدية، وأولهم القيادة اليمنية واللقاء المشترك والحركة الحوثية والحراك الجنوبي، كل منهم عليه أن يتخذ مواقف تُقرّب من إنجاز هذا العقد بعد التهدئة الضرورية وصمت السلاح.
إن ضمان الفيدرالية المشروعة في الإدارة الإقليمية والثروة لجنوب اليمن، هو الحل المشروع، مع ضرورة أن يراعي الحراك في الجنوب ضبط الدعوات الانفصالية المستمرة، وأن المشهد الإقليمي قد تغيّر، فلا يوجد أحد من مصلحته أن يُقسم اليمن ويعيد الانفصال إلاّ تجار مصالح محدودة، أو من يريد أن يستثمر لمستقبل يستشرفه.
إن تقدير كل الجهات السياسية والقبلية والمدنية لضرورة التوازنات الجديدة، والاتفاق على تدوين هذا العقد الاجتماعي السياسي، والبدء في المرحلة الانتقالية، سوف يضمن انتقال اليمن إلى بر الأمان بعد هذه العواصف التي تهدد بتفتيته واستغلال الأجانب لصراعاته لحساباتهم. وبلا شك في أن دعم المملكة لهذا التوجه، وبقبول كل الأطراف سيصب في الاتجاه الصحيح، الذي لن يخمد حرب دخان فقط، بل كل الفتنة التي نزعت بين الأشقاء في اليمن، لتبدأ الجمهورية طريق العودة إلى البناء.