لحج نيوز/بقلم: كميل خاطر -
(1)
فتحت باب الحظيرة صباحا، فانطلق قطيع الماعز باتجاه الشارع المؤدي للمرعى، كما عودت القطيع منذ أن كان أفراده صغارا أو كما اقتبس مساره من الكبار، لكن والدي قال محتجا – بعد سماعي- بنبرة ساخرة "أنا من روض القطيع قبل"...
غير مهم من فعل.. فالحقيقة لا تعني لي شيئا.. والدي قد توفي، وأنا سيد القطيع.. أنا ولد ابن الرابعة عشر، أدس في حقيبتي يوميا بعضا من الخبز والتفاح وأنطلق وراء القطيع، أرتدي ثيابا لا تشبه ثيابكم، وأحيانا أمتطي حماري ويسير..
بعد أن قطعنا مسافة ساعة من الوقت، دون أن تسأل أي هلعة (عنزة) أو كبش أو جدي من قطيعي أو يحتج على بعد المسافة، وصلنا إلى المرعى، القطيع يثق بي أو لا حول له ولا قوة على التغيير، والدي أخبرني قبل أن وافته المنية أن هذا الكلام لا يعكس الحقيقة، الحقيقة برأيه أن أفراد القطيع تعودوا على هذه الحياة – والتعود، كما يحكى في حلقات معينة- كان يقول: لا يعادل سوى الخنوع، ولا يخدم سوانا نحن الأسياد.
ورثت حمارا عن والدي، لونه رمادي، وجسمه معمور لا يعيبه سوى شيئين، سمنته التي تجعله يلهث بعد ساعة من السفر ورفضه للانصياع لي أحيانا قليلة حتى أنني بدأت أشك بأن طموحه بدأ يخطو خطوة أو أكثر في حقل ليس له.. أسيدٌ يحلم أن يكون حماري الغبي؟ هكذا بدأت تراودني الأفكار.. لهذا قررت اقتناء حمارا آخر ليخدمني وليقارع الأول عند لقائهما في دائرة قريبة.
حماري الجديد يفهم لغتي حتى أنه يقوم بواجبه على أكمل وجه دون أن آمره. الحمير في عصرنا هذا تخلّوا عن أخلاق فصيلتهم، وطوروا قدراتهم حتى أنهم تبنوا صفات الكلاب.
كنا نتدرج على سفح الوادي، وكنت أعزف على الناي. القطيع يرعى عشبا بسكينة عدا بعض الصغار، وهذا ما كان يعكر صفو يومي- بعد أن أترك حماري السمين ذي اللون الرمادي مربوطا بحبل يتيح له التحرك مسافة ثلاثة أمتار دائرية حين تنهار عزائمه من التعب أي بعد ساعة من لحظة الانطلاق نحو المرعى- فثغاء الحملان التي تملآ الدنيا ضجيج وتمنعني من الاسترسال بالعزف تقض حتى سكينة الكلب حيث يمد يديه بعزم نحو الأمام – حين يسمعهم – ويفتح فاهه متثائبا مصدرا صرخة خفيفة.. حبور الحملان هذا كان يقلقني لأنه يخرج من الأعماق.
حين وصلنا إلى النبع، كانت الشمس في كبد السماء، شربنا من حوض واحد ليس لرغبة مني، بل لأننا أنا والقطيع متساوون في استهلاك الماء، ولا أخفي عنكم أنني بدأت أفكر كيف سأرتوي بماء لا يشبه ماء ارتوائهم.. وبعد أن قيّلنا تحت شجر السرو المحيط بالنبعة قليلا عنّ على بالي طاسة من الحليب، لحظتئذ بدأت أنده على احدى الهلعات لتميزها عن الأخريات ليس بلون شعرها المائل الى الأزرق السماوي فحسب ولا بكمية الحليب التي تدر رغم أنها تحلب كما اثنتين، بل لأنها تنتقي أعشابا صعبة المنال عن الأخريات، حيث دخلت قبل فترة أرض تفاح وبدأت تلتهم فاكهتها حتى أنها بدأت بقضم احداها وعينيها على الأخرى. أحيانا كانت تترك الحبة التي بفمها وتجري اتجاه الأخرى دون قضم الأولى حتى ضلت الطريق... وبعد وقت ليس بقصير أفرحتني لأنها عادت.
لكن علتها، كما كانت أمي تقول لي حين أقوم بواجب ما وأندم عليه لاحقا "أنك كما العنزة البرشة بتحلب رطل حليب وتدلقه" هكذا حقا كانت تفعل الهلعة ذات الشعر المائل للأزرق السماوي، بينما أقوم بحلبها كانت ترفس الدلو بقوة فينسكب الحليب أرضا.
في طريق عودتنا للمبيت كنا نمر على طريق اسفلت، وبفضل قطيعي المتبختر منتفخ البطون شبعا وعنزتي البرشة – التي تدب على الأرض دبيبا وتطلق أظلافها صوتا كخبطات أقدام جيش عائد منتصرا من معركة- كنت أشعر حقا كقائد جيد للقوات الزاحفة، أما قائد القطيع المجاور لم يحظ بالشعور ذاته، أفراد قطيعه حتى عند عودتهم من المرعى تبقى عيونهم شاخصة نحو حفافي الطريق باحثين عن عشب قد يكفيهم حتى فجرا آخر... لا وقت لديهم لشق طريق بهضاب أعماقهم.
(2)
أنا كهل الآن، شعر رأسي حل، وشعر ذقني أبيض اللون، ظهري انحنى قليلا واعتلت وجهي تجاعيد كما موج البحر، لا رفيق درب لي سوى عصا سنديان.
قررت ذات صباح أن ألحق ولدي – سيد قطيعي السابق- إلى المرعى أقصد حظوي بذكرى، وقفت بجانب الطريق وقلبي شاخص نحو المرعى.. حين تقترب مركبة مني أمد يدي اليمنى قاصدا أن ينقلني أحدهم لمحاذاة المرعى، لم يرني أحد.. لا أحد رآني.. لو كنت أملك ثيابا غير ثيابي.. لو كنت أملك وجها غير وجهي لكنت لربما حظوت بخدمة، بعد ساعتين قررت أن أتقدم على مهل بالاستناد على رفيقتي الوحيدة.
عند الوادي لم أر ولدي.. لن أرى ولدي عند الوادي.. متذيل القطيع كبش ضخم كان يتمايل ببطء، لون شعره مثل لون الماء العكر، ذقنه طويلة تشبه ذقني لكنها تعلو وتهوي مع حركة اجتراره..
اقتعدت حجرا وبدأت أتأمله.. كم جميل ذاك الكبش
كان يجتر ويفكر..
العشب متوفر بكثرة حوله.. وملء الوادي اناث.
ماذا يفكر ذاك الكبش إذن؟
تساءلت مرارا..... أ بالدرب كيف سيعود!!!؟