بقلم/الدكتور الياس عفيف سليمان -
اعتمدت في كتابة هذا المقال على ابحاث وكتب المؤرخ لحروب اسرائيل الدكتور اوري ميلشطين, على المقابلات الشخصية التي اجراها مع يتساق نافون ويتسحاق ليفي وغيرهم, على المصادر والمراجع الاولية التي تمت معاينتها, على يوميات دافيد بن غوريون, الارشيف الصهيوني, ارشيف يسرائيل غاليلي الذي يشمل شهادات وافادات من لجنة التحقيق مثل شهادة يوسف فولياكوف وغيره, ملف قسم التحقيقات الجنائية (C I D ) 537 او ما يسمى بالشرطة السرية التابعة للانتداب البريطاني, ملف وزارة الخارجية البريطانية 371 وغيرها.
وكتب الدكتور ميلشطين انه في يوم الخميس 11 مارس 1948 وفي ساعات الصباح استطاع العرب ادخال سيارة مفخخة الى ساحة مباني المؤسسات القومية اليهودية ( ابتدأت عملية البناء في العام 1928 وبسب ازمة مالية انتهى البناء في العام 1938 ) الموجودة في حي رحابيا – شارع الملك جورج – في القدس. كان الهدف تفجير مقر قيادة الهاجاناة وقتل دافيد شالتيئيل (1903-1969 من قادة جهاز المخبرات في منظمة الهاجاناة وقائد كتيبة عاتسيوني التي حاربت في القدس وضواحيها في العام 1948 ) ورجال القيادة في الهاجاناة , انفجرت السيارة المفخخة قرب القسم التابع لصندوق التأسيس اليهودي –( قيرن هايسود, تأسست في لندن في العام 1920 وهي المؤسسة المالية المركزية لنشاطات المنظمة الصهيونية ).
كانت مباني المؤسسات القومية اليهودية هدفا للعرب, وعليه اصدرت غولدا مائير (1902 – 1978, رئيسة الحكومة الرابعة لدولة اسرائيل) مديرة المكتب السياسي في القدس يوم 30 نوفمبر 1947 امرا الى قائد لواء القدس يسرائيل عامير (1902 – 2002) بان يقوم بالترتيبات الامنية اللازمة لحراسة تلك المباني .
كان لدى جهاز المخابرات العبرية بعض المعلومات, ففي الرابع من فبراير 1948 قام سكرتير المكتب السياسي في الوكالة اليهودية ليو كوهين (1894 – 1961) بإعلام فيفيان فوكس سترانكفيس مديرة المكتب السياسي في حكومة الانتداب البريطاني بان العرب يخططون لإرسال سيارة مفخخة تمر من المنطقة الواقعة تحت السيطرة البريطانية لتفجير الجدار الخارجي لمقر الوكالة ومكاتب اللجنة القومية. قامت فيفيان بإصدار اوامرها تلفونيا الى قائد الجيش والشرطة لزيادة عدد الحراس وتشديد الحراسة تخوفا من عملية كهذه. واكدت فيفيان لكوهين بانها ستعمل كل ما في وسعها للحفاظ على امن المراكز اليهودية الحساسة.
في 10 فبراير 1948 حذرت القيادة العامة للهاجاناة قيادة لواء القدس بما يلي " بنية العرب تفجير مباني عامة, مثل مكاتب الوكالة اليهودية ". في 4 مارس 1948 استلم بيريتس كارميلي الرجل المسؤول عن حراسة المباني خبرا مفاده " سيارة مفخخة على وشك الدخول الى ساحة مباني المؤسسات ". في 10 مارس 1948 وصل الى مقر جهاز المخابرات بالقدس خبرا جاء فيه " سيحاول العرب القيام بعملية تفجير في الحي اليهودي ". في اليوم التالي, 11 مارس 1948 وقع الانفجار في مباني المؤسسات القومية اليهودية.
كانت الحراسة على مباني المؤسسات القومية اليهودية غير ناجعة رغم التحذيرات, هذا ما يتضح من افادات وشهادات رجال الامن امام لجنة التحقيق برئاسة دوف يوسف ممثلا عن الوكالة اليهودية والتي تم تعيينها بعد الانفجار . وقال يركوني المسؤول عن امن المؤسسات القومية " لا يوجد بحوزتي تعليمات مكتوبة عن كيفية التصرف والحراسة في ساحة المؤسسات " وصرح شموئيل ايزنمان احد المسؤولين عن الحراسة "طلبت وضع بوابة وجدار شوكي لكي امنع دخول السيارات الى الساحة وبهذا الخصوص اجابوني من مقر القيادة بان هذا الطلب غير قابل للتنفيذ " .
وقف الحارس دافيد شطرنفلد في مدخل بناية المؤسسات القومية عندما دخلت السيارة المفخخة الى الساحة. وصرح شطرنفلد امام لجنة التحقيق بما يلي " لا يمكن القول بانة كانت هناك تعليمات دقيقة بخصوص ادخال السيارات, هناك لوائح بأرقام السيارات ونوعها .... لا يوجد قانون ثابت ولا قاعدة متبعة للفحص....". وصرحت مالكا كينان عضوة في المكتب السياسي لجهاز المخابرات انه وقبل شهر من الانفجار كانت منزعجة من حركة السيارات الغريبة التي سافرت وتجولت دون فحص ورقابة بجوار مباني الوكالة, اقترحت لحراس المبنى وضع الحواجز على الطرق القريبة لإبعاد السائقين الاغراب عن المباني. علم بالأمر يحزقيل ساهار سكرتير المكتب الامني بالوكالة اليهودية ومنسق الاعمال مع البريطانيين, فقام بتنبيه وتحذير مالكا الا تعود بإصدار الاوامر على عاتقها, واصدر امرا للحراس برفع وازالة الحواجز.
كان بطل التفجير انطون داوود ( ولد انطون في كولومبيا في امريكا اللاتينية في العام 1909 لعائلة ارمنية اصلها من بيت لحم, في العام 1935 جاء الى فلسطين قادما من فرنسا, توفي في الكويت في العام 1969 ) اطلق جهاز المخابرات العبرية لقب " ابو يوسف " على انطون الذي عمل سائقا لسيارة اجرة.
في العام 1947 باع انطون سيارة الاجرة التي يملكها لجندي يهودي محرر من الخدمة العسكرية بسعر مخفض وساعده في كسب الزبائن. رأى سائقو سيارات الاجرة بأنطون صديقا لهم. عمل انطون ابان الحرب سائقا في القنصلية الامريكية بالقدس وكان ينقل الموظفات اليهوديات من بيوتهن للعمل في القنصلية واعادتهن الى بيوتهن بعد انتهاء الدوام, كانت العلاقة مع انطون جيدة وفي بعض الاحيان كن يطلبن منه ان يبتاع لهن البيض والفواكه من التجار العرب في السوق وكان يفعل ذلك, وكان يقول دائما بانه يستطيع ان يشتري من العرب كل شيء حتى السلاح والذخيرة.
اسبوعين قبل الانفجار اتصل انطون داوود بيوسف فولياكوف ( عضو في الهاجاناة ) سائق سيارة اجرة في محطة السيارات "نيشر" وقال له " اطلب منك ان تدبر لي مقابلة مع الكبار عندكم, عندي معلومات اريد ان اطلعهم عليها. اريد ان اقوم بعمل وبعدها اسافر الى امريكا ". قام فولياكوف برفع تقرير الى يتسحاق نافون (من مواليد 1921 ,الرئيس الخامس لدولة اسرائيل) مدير جهاز المخابرات العبرية في القدس. اصدر يتسحاق ليفي القائد العام لجهاز المخابرات امرا بان يقوم نافون بمقابلة " ابو يوسف ". اقترح فولياكوف لنافون إجراء المقابلة في بيت الوكالة اليهودية, رفض نافون الاقتراح ودعا انطون – ابو يوسف – الى مكتبه بشارع شاتص في القدس.
وروى يتسحاق ليفي بان تسيون الداد ضابط العمليات اوصى بالتعامل مع انطون داوود لان الداد كان يعلم بان عربا من الخليل قتلوا عم داوود ولهذا يريد الانتقام .رغم ذلك تعاون انطون داوود مع عبد القادر الحسيني ربما من اجل المال او خوفا على حياته بانه يتعامل مع اليهود.
عشرة ايام قبل الانفجار التقى انطون بيتسحاق نافون ورجل المخابرات في القسم العربي يهودا فيامنطا وكان معهم السائقان يوسف فولياكوف ودانيئيل سودانسكي . سأل نافون انطون, " أي كلام في فمك ؟" طلب انطون قلما وورقة ورسم وخطط طرق الوصول الى مقر لمجموعة عربية مسلحة في شارع ماميلا, واقترح تفجير المقر بمواد متفجرة يتم احضارها في سيارة البريد. اسئلة نافون واجوبة - ابو يوسف - انطون عن الزعامات والقادة العرب خلفت انطباعا لدى نافون بان انطون لا يملك الكثير من المعلومات او انه لا يريد البوح بكل ما يعلم. افتخر انطون بانه يعرف عبد القادر الحسيني شخصيا, وافصح بانه معني بالمال للسفر الى امريكا والالتحاق بعائلته. طلب انطون ان يحاول اليهود اخلاء سبيله في حال القى البريطانيون القبض عليه. اجاب نافون " برنامجك جيد جدا وسنقوم بفحصه اما بالنسبة للمال الذي تطلبه فمن المفروض ان تأتينا بالسلاح " واكمل نافون كلامه باللغة العبرية قائلا لأصدقائه " ضعيف جدا ولا يعرف التفاصيل, ولكن من اجل السلاح يمكن ان يكون جيدا ". اقتراح نافون لم يعجب انطون رغم ذلك وعد بمحاولة شراء الاسلحة ,عندها قالوا له بان فولياكوف سيكون حلقة الوصل بينه وبين نافون.
قام نافون بدعوة باروخ كاتينكا رجل المشتريات المقدسي ورئيس قسم المشتريات في المنظمة يعقوب يانيف الى مكتبه وطلب منهم المال, رفض كل من باروخ ويعقوب الطلب وطلبوا رؤية البائع, رفض نافون وقال بان البائع رجل مهم ويريد ان يبقي اسمه سريا وهذا الرد اقنعهما.
سلم نافون 120 جنيه فلسطيني الى فولياكوف. في 8 مارس 1948 احضر فولياكوف 3 مسدسات الى مكتب المخابرات في بناية الوكالة اليهودية والتي اشتراها من ابو يوسف – انطون – , تم تسليم المسدسات الى نافون بعد الفحص تبين ان احد المسدسات غير صالح لإطلاق النار. رغم ذلك اعطى نافون لفولياكوف مبلغا اضافيا من المال ليشتري رشاشان من نوع برين ,قال فولياكوف لنافون " من المفضل احضار الرشاشات الى بيت الوكالة حرصا على سلامة وامان ابو يوسف " اجاب نافون " لا املك الصلاحية لتزويدك بتصريح كهذا ".قرر فولياكوف ان يعمل على عاتقه دون العودة الى نافون, فاتصل بيانيف وحصل على المال لشراء السلاح من السائق الارمني الذي وضعوا ثقتهم به. في 10 مارس من العام 1948 حصل فولياكوف على 500 جنيه فلسطيني من يانيف وكاتينكا لشراء الاسلحة الرشاشة من ابو يوسف.
في يوم 11 مارس 1948 وفي الساعة السابعة صباحا ذهب انطون داوود الى عمله كعادته في سيارته من نوع فورد ذات اللون البني الاخضر التابعة للقنصلية الامريكية. قام بإحضار العاملات اليهوديات الى القنصلية. بعد ذلك اتصل تلفونيا بمحطة سيارات الاجرة نيشر وترك خبرا لفولياكوف :" تعال بسرعة ". ذهب فولياكوف على الفور الى القنصلية الامريكية والتقى بأنطون وقرروا ما يلي: " يتم تسليم الاسلحة الرشاشة في الساعة 09:30 صباحا قرب بيت الوكالة. عاد فولياكوف بسيارة الاجرة التي يقودها وفي الطريق ركب معه الحارس دافيد شطرنفلد واخبره بعملية شراء الاسلحة.
في الساعة 08:30 من صباح يوم 11 مارس 1948 قام خبير المتفجرات فوزي القطب (ولد في دمشق في العام 1917 لعائلة مقدسية الأصل وتوفي في دمشق في العام 1988 ) بزرع 100 كيلوغرام من مادة تي.ان.تي شديدة الانفجار مربوطة بجهاز توقيت في صندوق السيارة التي يقودها انطون أي سيارة القنصلية الامريكية. في الساعة 09:15 من صباح ذلك اليوم دخل فولياكوف بسيارة الاجرة التابعة له الى ساحة المؤسسات القومية اليهودية, وطلب من الحراس عدم تأخير ابو يوسف عندما يأتي .
التقى فولياكوف رئيس جهاز المخابرات يتسحاق ليفي في ساحة المبنى وطلب منه ان يركن سيارته خارج الساحة قرب بيت غولدشميط لتسلم السلاح . قام ليفي بذلك وابقى ابواب سيارته مفتوحه لوضع السلاح الذي سياتي به ابو يوسف. في الساعة 09:30 دخلت سيارة القنصلية الامريكية الى ساحة المؤسسات القومية اليهودية وذلك بعد فحصها بشكل سريع. قام ابو يوسف بركن السيارة قرب مبنى الصندوق التأسيسي – قيرن هايسود – , ابقى المفتاح بداخلها, خرج منها وبيده رزمة وصعد الى سيارة فولياكوف وقال له: "اتي من البريد, لدي عدة رزم, انطلق بسرعة ".فولياكوف متحيرا, " الى اين؟ " اجاب ابو يوسف: " الى المنطقة البريطانية, هناك ينتظرني ابن عمي ومعه سيارة مليئة بالأسلحة ". قال فولياكوف, " ماذا عن سيارة القنصلية؟ " اجاب ابو يوسف " انت تعرف اني قادم من البريد, رأيت كل الرزم في السيارة وعلينا الاسراع ".
قام فولياكوف بتوصيل ابو يوسف الى شارع الملك جورج قرب الحاجز المؤدي الى المنطقة البريطانية. جلس الاثنان في السيارة دقائق معدودة, بعدها خرج ابو يوسف تاركا الرزمة التي كانت معه في السيارة ليفتش عن ابن عمه, ووعد فولياكوف بانه سيعود الى مكان اللقاء ولكنه لم يعد.
تواجد في ساحة مباني المؤسسات القومية والوكالة اليهودية حارسا اسمه ارييه غور, هذا الحارس اقترب من سيارة القنصلية الامريكية ( سيارة انطون- ابو يوسف ) ونظر الى داخلها عن قريب ولاحظ اسلاكا تخرج منها, جلس بداخلها واشغل محركها, انفتح صندوق السارة الخلفي, اقترب منها حارس اخر ولاحظ رزم ملفوفة في ورق ابيض فقام بإغلاق الصندوق. ذهب الحارس ارييه غور الى البوابة الرئيسية والتقى شطرنفلد وقال له: "في سيارة القنصلية امر غريب ولا يعجبني, سأقودها الى الخارج واعود " .
قام ارييه غور بقيادة السيارة " المفخخة " الى محطة سيارات الاجرة نيشر, سأل عن فولياكوف ولم يجده, قرر ارييه غور العودة بالسيارة الى مكانها أي الى ساحة المؤسسات القومية وركنها قرب قسم الصندوق التأسيسي –قيرن هايسود - وكانت الساعة 09:46 صباحا, سحب ارييه غور مكابح اليد وانفجرت السيارة, انهار الحائط الخارجي للمبنى وقسم منه, اندلعت النيران في المبنى . لييب يافي رئيس الصندوق التاسيسي – قيرن هايسود _ مات على الفور ومعه 6 وجرح 100 شخص. بعد فحص الرزمة التي وضعها ابو يوسف في سيارة فولياكوف وجد بداخلها رافعة سيارات صغيرة – جاك – بدلا من السلاح.
علم وليام بورتير, القنصل الامريكي بالحادث, على الفور وجه عدة اسئلة منها, كيف تدخل سيارة القنصلية الى ساحة المباني دون فحص, فضل جهاز المخابرات اليهودية عدم الاجابة على السؤال تخوفا من عواقب استعمالهم سيارة القنصلية لشراء السلاح.
قامت ادارة الوكالة اليهودية بتعيين لجنة تحقيق من ثلاثة حكام لفحص اسباب ونتائج الحادث واستخلاص العبر, ومن اهم ما جاء في تحقيق اللجنة اقوال فولياكوف " اعتقدت وتمنيت انا الرجل البسيط , رغم اني لا اشغل اى منصب رفيع بان انجح واجلب السلاح للمدينة لحمايتها ", اجابه دوف يوسف رئيس لجنة التحقيق : " رجلا صغيرا كنت, وصغيرا تبقى, اني اشفق عليك واخجل من عملك, قررنا عدم ادانتك, لكننا سنجردك من عضويتك في الهاجاناة, لا نريد ان نرى وجهك بعد الان, عليك ترك القدس..... ".
رفعت عملية تفجير المباني والمؤسسات القومية من معنويات العرب, اما معنويات اليهود فقد تدنت وخاصة في القدس. كان لهذه العملية الاثر الكبير على مجريات الاحداث في القدس وضواحيها فيما بعد.
[email protected]