لحج نيوز - جانب من عملية تصدير الارهاب

الثلاثاء, 28-أغسطس-2012
لحج نيوز/وكالات -
- كيف نجحت وزارة الداخلية في احتواء التيارات الإسلامية الجهادية والتيارات الشيعية؟ وكيف حاصرت ما يسمى بحزب الله الحجاز؟

- بسبب غياب الإنترنت ووسائل كشف انتهاكات حقوق الإنسان؛ مارست المباحث أسوأ أشكال التعذيب التي وصلت حد الاعتداء الجنسي

- 4 من منفذي تفجيرات الرياض والخبر فروا إلى اليمن وعام 97 طلبت الرياض من دمشق تسليمها شخصا كان في إيران فقتله السوريون وسلموه جثة وزعموا أنه انتحر

- علمت الداخلية أن معظم قيادات الشيعة، ومعهم إيران، لا يريدون سقوط آل سعود؛ لأن تعاملهم مع نظام همه فقط البقاء في الحكم أسهل عليهم من نظام همه الدين

- احتلال أمريكا للعراق قوى الشيعة في المنطقة ومكّنهم من إعادة تنظيم أنفسهم بتفاصيل خطيرة لكنها مشلولة أمامهم


-  تمكنت الداخلية من شراء قيادات الشيعة عبر بتحسين أوضاع الطائفة والاغداق عليهم، حتى صار ما يصل لبعضهم من الدولة أكثر مما يصلهم من الخمس

-  جهز الشيعة أنفسهم لكل الاحتمالات؛ من السكوت والتفاهم مع الدولة، إلى مظاهرات سلمية، إلى عمل عسكري كامل لفصل الشرقية

تحدثنا عن تعامل الداخلية مع التيارات الليبرالية من نشأة الدولة إلى الآن... وأشرنا إلى تطور هذه العلاقة وانقلابها بالكامل، وتحدثنا عن تعامل وزارة الداخلية ومعلوماتها عن التيارات والجماعات الإسلامية منذ الستينيات إلى 1990... والليلة نستكمل قصة الداخلية مع هذه التيارات:
حين دخل العراق الكويت، اتخذت الدولة [السعودية] قرارا بالموافقة على وجود أمريكي ضخم داخل المملكة؛ لكن سوّقت القرار كما لو كان استدعاء من طرفها بإقرار العلماء. وكان هذا الاستدعاء المزعوم السبب الأول في استفزاز بعض التيارات الإسلامية، ثم تلاه قصة مظاهرة النساء التي ضاعفت هذا الاستفزاز.. فما الذي حصل؟

تفاجأت الداخلية بعدة نشاطات بأشكال مختلفة مبعثرة ليس لها نسق تستطيع أن تتبعه في تنظيم معين، ولم تحل لغزه إلا بعد مرور عدة سنوات. انطلق مجموعة من الرموز، في مقدمتهم سلمان العودة، وسفر الحوالي، في نشاط محرج جدا للدولة، وفي نفس الوقت يسحب البساط من تحت العلماء الرسميين؛ سلمان العودة كون لنفسه جمهوراً قبل الأزمة وسع هذا الجمهور بمحاضرة شهيرة اسمها "سقوط الدول"، وكأنه يقول فيها إن الدولة السعودية ساقطة لا محالة، وفي نفس الوقت ألقى سفر الحوالي محاضرتين تحدث فيهما عن خطة أمريكا في احتلال الخليج وضعت منذ السبعينيات وكأنه يقول إن الدولة تنفذ مراد أمريكا، وصادف نفس الوقت بروز شخصيات أخرى، مثل ناصر العمر وعوض القرني وغيرهما، في تدفق لمحاضرات ودروس تسجل وتنشر بكثافة. واستمر هؤلاء المشايخ، خاصة سلمان وسفر، يتحدثون للجمهور، خلال الأزمة، متفادين الصدام الصريح مع الدولة؛ لكن محتوى كلامهم يصب في عداء الدولة. هذه النشاطات المشيخية لم تتمكن المباحث أن تضعها في إطار مفهوم أو خريطة قابلة للتصور والحقيقة اكتشفتها، لاحقا أنها فعلا ليست عملا منسقا.

وفي نفس تلك الفترة كان من المتحمسين ضد الدولة شخص لا يخطر في بالكم، هو عبد المحسن العبيكان، الذي وصل به الحال للذهاب لأفغانستان، خلال الأزمة، ووصل الحماس بالعبيكان أن يطالب الشيخ بن باز باستصدار فتوى بأن الملك فهد سفيه ويجب أن يحجر عليه.
وممن كانوا متحمسين في تلك الفترة ضد الدولة الدكتور احمد التويجري، الذي كان ينظر لفكرة مظاهرة على غرار مظاهرات جبهة الإنقاذ في الجزائر. هذه النشاطات المبعثرة (تبين لاحقا أنها مبعثرة فعلا) أربكت الدولة جدا؛ ولكن ظهر للدولة إنقاذ لم تحلم فيه من تيار تطوع لخدمتها شرعياً بحماس عجيب. بدأ بعض المحسوبين على طلبة العلم يتكلمون بشراسة ضد سلمان العودة وسفر الحوالي، ويتهمونهما بالحزبية والبدعية والخروج، ويدافعون عن الدولة بحماس. وأول من تصدى لذلك شخص يقال له محمد أمان جامي، في الأيام الأولى بعد الأزمة، بعد ظهور أشرطة الشيخين، سلمان وسفر، وتبعه ربيع المدخلي وآخرون.

محمد امان جامي (...) (إثيوبي أو إريتري) كان قد حصلت له مشكلة، وعلى وشك أن يطرد من البلد، فتوسط له بن باز، في الثمانينيات؛ لأن عنده طرف طرب علم، وبقي يحس بحرج وضعه النظامي، وينتظر فرصة يحمي فيها وضعه، ويبقى في البلد برضا السلطة، ولاحت له الفرصة بشن حرب على سلمان وسفر فلم يقصر.

بدأ يتكلم بشراسة في اتجاهين: 1- تبرير تصرفات الدولة في استقدام الامريكان. 2-  التشكيك في سلمان العودة وسفر الحوالي الحزبيين الخوارج... الخ.

التف حوله مجموعة منهم الشيخ ربيع المدخلي وفالح الحربي، وشخص يقال له المالكي، نسيت اسمه الأول. وبكل أمانة، ومن خلال معلومات دقيقة من داخل وزارة الداخلية، فإن الداخلية لم تصنع هذا التيار، بل راقبته بسرور وقررت استثماره ولم تستعجل في القرار. وقبل أن تنتهي معركة الامريكان في إخراج العراق من الكويت قررت الداخلية تجنب القمع؛ لأن الوضع في الداخل هش، وتحملت كثيرا من النشاطات المحرجة لها، وكان من أهمها المظاهرة المضادة لمظاهرة المرأة، وبيانات ومنشورات كثيرة تداولها المشايخ، وغيرهم، فيها إحراج شديد للدولة؛ لكن الدولة أجلت القمع. وكانت نية وزارة الداخلية أن تشن حملة قمع بعد الحرب مباشرة إذا كانت نتيجة الحرب قوية لصالح المراهنة على الاستعانة بالامريكان؛ لكن الداخلية فوجئت بشيء ألزمها بتجميد كل خطط القمع، وهو استلام الملك لخطاب موقع من حوالي 400 شخصية كبيرة بمطالب إصلاح سياسي كبيرة. الخطاب سلمه الشيخ بن زعير للديوان الملكي بنسخة لولي العهد وأخرى للأمير سلطان ونايف وسلمان، وواحدة لهيئة كبار العلماء، وأخرى لمجلس القضاء الأعلى. احتوى الخطاب 12 نقطة كلها مطالب جوهرية؛ أولها إنشاء مجلس شورى، وثانيها محاسبة كبار المسؤولين... الخ. وتزكية للخطاب من الشيخ بن باز وبن عثيمين. غضب الملك من الداخلية التي لم تكن تعرف شيئاً عن هذا الخطاب، وجرى بين الملك وسلمان ونايف نقاش ساخن حول قصة البيان (عبد الله كان ما يعرف شيئاً). تقرر إجراء تحليل سريع لمعرفة من خلف الخطاب. وصدر عن هذا التحليل عدة أسماء مرشحة تبين فيما بعد (3 سنوات) أن واحدا منها هو الصحيح فقط. استدعى سلطان هذه الأسماء؛ لكن الداخلية تفاجأت بصدمة ثانية وهي انتشار الخطاب في الداخل والخارج، فألغى سلطان المقابلة مع الاشخاص المرشحين. جمعت الدولة هيئة كبار العلماء لإصدار بيان ضد هذا الخطاب؛ لكن لم يكن جهد الهيئة مرضياً، فكانت الحاجة ماسة لاستخدام جماعة محمد امان جامي. وردت تقارير المباحث عن النشاط المفيد جداً لتيار محمد امان جامي، فتقرر استخدام هذا التيار لضرب تيار سلمان وسفر، وجماعة الخطاب الجديد أياً كانوا، ونجحت الداخلية من خلال اختراق هذا التيار بجيش من المباحث بتشكيلة قابلة للتوجيه، وكلفت الداخلية أمارات المناطق بدعم كل المحسوبين عليه، وزودت هذه المجموعات بتسهيلات مادية ولوجستية لطباعة الكتب ونسخ الأشرطة والمنشورات (وقتها لم يكن هناك انترنت ولا فضائيات) وفرضت وجودها. لم تكن الدولة، وقتها، تريد أن تستخدم هيئة كبار العلماء للرد على سلمان وسفر باعتبار كبار العلماء أوقر وأكبر من أن يردوا على شباب مثل سلمان وسفر، والشيخ الوحيد من هيئة كبار العلماء الذي كان مع التيار الجامي هو الشيخ صالح الفوزان، الذي كان يرد على سلمان وسفر بنفس طريقة محمد امان والمدخلي. واستمر السجال بين التيارين وتعقدت القصة أكثر؛ ولكن الدولة تحاشت القمع والبطش إلى أن وصلت إلى مرحلة لا تحتملها وبعدها انكشف كثير من التفاصيل.

التيار المناهض للدولة أخذ خطين، الأول نشاط سلمان وسفر وأمثالهما، على شكل محاضرات ودروس قوية فيها صدام ضمني (وليس حقيقي)، خاصة من طرف الشيخ سلمان. وكانت الداخلية قد رصدت لقاءات لبعض لهؤلاء المشايخ سواء بينهم شخصياً، أو مع الشيخ بن باز؛ لكن لم تتمكن من معرفة إن كانت تنظيما أو مجرد لقاءات. وتبين من خلال التحقيق، فيما بعد، أنها لقاءات غير منظمة وركيكة إدارياً، ولا تمت بصلة للتنظيمات الحركية، ولم يصدر عنها نتيجة نوعية. لكن الترتيب الأخطر كان نشاط مجموعة نشطاء إسلاميين من جامعة الملك سعود، لم تعرف عنه الداخلية شيئاً إلا بعد التحقيقات مع المعتقلين سنة 93 و94. هذا الترتيب هو الذي تمخض عنه مذكرة النصيحة، ولجنة الدفاع عن الحقوق الشرعية، وتبين أن مجموعته كان لها الدور الأكبر في الخطاب الذي أشرنا إليه. اصدارات هذه المجموعة كانت سابقة لتصرفات الدولة وأعلى من مستوى التيار الجامي، وكانت تربك الدولة بشكل كبير وتضعها في موقف رد الفعل. بينما كانت قدرات المشايخ، حتى المتنورين الواعين منهم (سلمان وسفر)، قابلة للاستشراف والتوقع والاستيعاب والامتصاص من قبل الدولة والتيار الجامي. تبين، فيما بعد، من خلال الاعتقالات والتحقيقات، أن هذه الأعمال يقف خلفها حوالي 22 شخصاً من جامعة الملك سعود، ومن غيرها؛ ولكن التشكيلة تغيرت مع الزمن. بدأت التشكيلة بالفقيه والعواجي واحمد التويجري والعبيكان والمحامي عبد العزيز القاسم والشيخ الطريري، ثم خرج منها الطريري والتويجري والعبيكان، ثم انضم إليها عدد من أساتذة جامعة الملك سعود من أبرزهم الدكتور المسعري وأسماء أخرى منهم الدباسي والنافع والوكيل والمفتي والحمدان وغيرهم.

وحصل خلال الفترة ما بين أزمة الخليج واعتقالات سنة 1994 أحداث كثيرة هامة لكن لا تهمنا بقدر ما يهمنا تشكيلات الاسلاميين التي واجهت الدولة. المهم هذه المجموعة من جامعة الملك سعود؛ كانت تلتقي بانتظام وتقابل الشيخ بن باز رحمه الله، وتنسق، بشكل ضعيف، مع مجموعة المشايخ التي ذكرتها آنفاً. تبين، فيما بعد، في التحقيقات أن عمل هذه المجموعة كان مرتباً بأهداف واضحة واللقاءات تتم بطريقة منتجة لا تقارن أبداً بلقاءات المشايخ الفوضوية. أعجب ما ظهر في التحقيقات هو أن كلتا المجموعتين تعمل بمعزل تام عن التيارات الحركية (الإخوان والسروريين) رغم أن بينها من ينتمي لهذه التيارات.

خدمات وشاية باسم الدين تنتهي بالطرد

نعود للتيار الجامي، الذي ترعرع تحت رعاية وزارة الداخلية، ووصل ذروة نشاطه في منتصف التسعينات، حيث كان وقتها معشوق نايف، بسب ما يقدم من خدمات. المضحك أن نايف، في البداية، كان يعتبر معلومات هذا التيار مسلمات إلى أن اكتشف، بعد التحقيقات، أنهم يؤلفون ويضخمون من أجل رفع رصيدهم عنده، وقد جمعوا ملفاً ضخماً من تأليفاتهم ورتبه نيابة عنهم شخص اسمى نفسه "أبو عبد الرحمن" سلم لوزارة الداخلية سنة 1993، فيه من العجائب ما يصلح للتندر.. طبقاً للملف؛ فإن هناك تنظيما دوليا يجمع الإخوان (مناع القطان) والسروريين (محمد سرور) والترابي والمسعري وسلمان وسفر... الخ، بطريقة تشبه الماسونية.

في سنة 1994، أو 1995، توفي محمد امان جامي بسرطان الفم. قيل بسبب دعوة الناس عليه لأنه أكثر من قذف الدعاة بالباطل واستلم بعده ربيع المدخلي.

في سنة 1996، أو 1997، صدق ربيع المدخلي نفسه، واعتقد أن نايف يحبه أكثر من إخوانه، فكتب تقريراً في نشاط الإخوان المسلمين في المدينة المنورة. وتضمن في تقريره اسماء من داخل إمارة المدينة تحت سلطة الأمير عبد المجيد، ولمز في التقرير بالأمير عبد المجيد، أمير المدينة وقتها، لأنه سكت عنهم. وقتها كانت الصورة بدأت تتضح، من خلال التحقيقات، وحين قرأ نايف تقرير ربيع المدخلي، وتحقق من عبد المجيد، أدرك أن الرجل بالغ قليلاً، فُطرد من المدينة.

في منتصف التسعينيات؛ أدركت الداخلية أن التيار الجامي لا ينفع للمعلومات ولا للتقويم، بل ينفع فقط في الرد على الاسلاميين الاصلاحيين بحجة أنهم خوارج.
وبينما بدأت الصورة تتضح في منتصف التسعينيات، من خلال التحقيق مع المجموعات المحسوبة على سلمان وسفر، حصل تطور آخر أربك الاوراق وهو عودة الجهاديين.
بعد تفجير الرياض سنة 1995، شنت الدولة حملة اعتقالات بين كل من يمكن تتبعه من أصحاب التجربة السابقة في الجهاد، ولم تكن الصورة واضحة في البداية، وسبب عدم الوضوح أن عدداً كبيراً من الجهاديين كان متأثرا بسلمان وسفر، منذ أيام الجهاد الافغاني في الثمانينيات، ولذلك كان هناك خلط بين التيارات. بعد التحقيق والفرز؛ تبين الخط الفاصل بين هذه التيارات، وقررت الداخلية تخفيف الضغط على تيار سلمان وسفر لأن الضغط هو الذي ينمي التيار الجهادي.. أما الخط الآخر (جامعة الملك سعود) فقد أثبت أنه اكثر قدرة على المبادرة من الدولة ففاجأ الدولة بنقل النشاط للخارج بإعلان لجنة الدفاع من لندن. وهنا استفزعت الدولة مرة أخرى بالتيار الجامي لوصف هذا التحرك بأوصاف أسوأ من أوصاف تيار سلمان وسفر، وتصدى التيار الجامي بقوة لمعارضة الخارج. في هذا الأثناء كانت الداخلية تحاور سلمان وسفر وناصر العمر والبقية داخل السجن، ووصلت إلى تفاهم بالخروج والتريث إلى أن يسمح لهم بالنشاط بشروط. لم يكن تصرف الداخلية طيبة منها؛ لكن الخوف من التيار الجهادي والمعارضة الاسلامية في الخارج كان السبب في ليونة الدولة وكان المقصود هو التالي:

المقصود أن يتم كسب سلمان العودة وسفر الحوالي وناصر العمر، وأمثالهم، بعد مغازلة تدريجية لهم، للوقوف مع الدولة ضد الجهاديين ومعارضة الخارج. لن أتحدث الآن عن مدى نجاح الداخلية في التفاهم مع سلمان وسفر وناصر العمر، وسأتركه لجلسة أخرى؛ لكن أختم بمعلومة هامة ومثيرة وغريبة جداً.. رغم اعتقال عدد كبير من تلاميذ سفر وسلمان، واعتقال الجهاديين، ورغم حملة الجاميين للوشاية بالجميع، لم تتأثر التيارات الحركية أبدا بالاعتقالات. التيارات الحركية (الجماعات المحسوبة على الإخوان والسروريين) لم تُستهدف من قبل وزارة الداخلية، وكانت الداخلية غير حريصة أبدا في استهدافها، بل لم يستدع أحد من قيادات هذه التيارات حتى يطلب منه تجميد نشاط جماعته رغم أنها استمرت في نشاطها الحركي والتنظيمي.

إطلاق سرح مشروط بالاعتذار والتعهد

وصلنا إلى 1999، حين أطلق سراح سلمان وسفر، وتغير المشهد بالكامل، وتغيرت علاقة الدولة بالتيارات الدينية وخاصة التيار السروري.

كانت أقوى 4 شخصيات بين المعتقلين، قبل 1999، الشيوخ سلمان، وسفر، وناصر العمر، وسعيد بن زعير، وأطلق سراح الثلاثة وبقي بن زعير. وقبلهم كان قد أطلق سراح الدكتور العواجي، والحضيف، وآخرين من المثقفين، لكن ثقلهم الشعبي لم يكن بنفس قدر المشايخ الذين ذكرت أسماءهم. وفي خطة خبيثة اتفقت الداخلية معهم على إخفاء خبر هذه التعهدات، وبث المباحث إشاعة أنهم خرجوا من السجن دون أي شروط، والدولة تنازلت لهم بعد صمودهم.. وحين أطلق سراحهم؛ استقبلهم محمد بن نايف في مكتبه، وقبل رؤوسهم، وقال لهم: "أنتم مشايخنا، ونحن جاهزون عند طلب أي مساعدة مادية، أو معنوية، أو إعلامية". وكان هناك مشايخ أقل شهرة من المعتقلين، أخذت عليهم تعهدات مشابهة، وأطلق سراحهم؛ لكن لم يحضوا بنفس الكرم والترحاب الذي لاقاه الثلاثة.

لم تأت سنة 2000 إلا وقد وأطلق جميع المحسوبين على (انتفاضة بريدة التي كانت بسبب اعتقال سفر الحوالي وسلمان العودة)، وهم 600 شخص، ولم يبق إلا الذين رفضوا الاعتذار، والتعهد أمثال بن زعير والسناني.. طبعا هذا لا يتضمن الجهاديين الذين بقي عدد كبير منهم في السجون، بعد الحملة التي تلت تفجير الرياض، 1995، وتفجير الخبر 1996، والذي نتكلم عنه لاحقا.

بعد خروج سلمان وسفر وناصر العمر من السجن؛ عادوا إلى النشاط الدعوي بشكل تدريجي، ملتزمين بالتعهد، وهو استئذان وزارة الداخلية بأي خطوة جديدة.. وكان الانترنت وقتها قد دخل البلد فاقتحموه بقوة، وأنشأ كل منهم موقعه، الشيخ سلمان أسس "موقع الاسلام اليوم"، والشيخ ناصر أسس "موقع أنا المسلم"، أما المثقفون فكان أشهرهم د. محسن العواجي، الذي أسس "موقع الوسطية". وكانت الداخلية تتابع الجميع ليس بالتجسس، لكن بالتنسيق لأنهم ملتزمون بالتعهدات.

نجحت خطة الداخلية في احتواء التيارات الإسلامية، من خلال احتواء هذه القيادات التي أبقت لها مصداقيتها من خلال إخفاء خبر الاعتذارات والتعهدات.. وكانت الفترة من بداية 1999، إلى نهاية 2001، مثالية سحبت فيها الداخلية البساط من القوى الأخرى مستعينة بهذه القيادات، إلى أن جاءت أحداث سبتمبر.. وخلال نفس الفترة؛ تفاهمت الدولة مع التيارات الشيعية بتنازلات حقيقية (خلافا للسيطرة على سلمان وسفر بدون تنازلات) وقدمت لهم ثلثي مطالبهم تقريباً.

احتواء الشيعة

علمت الداخلية، من خلال مصادرها في المباحث، وكذلك من خلال علاقاتها مع القيادات الشيعية الاجتماعية، معلومتين مهمتين عن الشيعة استفادت منها كثيرا:

الأولى أن معظم قيادات الشيعة، ومعهم إيران، لا يريدون سقوط آل سعود؛ لأن تعاملهم مع نظام همه فقط البقاء في الحكم اسهل عليهم من نظام همه الدين. الثانية أن الشيعة المتشددين يمكن عزلهم بتقوية نفوذ القيادات التي تدعو للتفاهم مع الدولة، ومن هنا تم تحجيم وحصار ما يسمى بحزب الله الحجاز.

وكانت الداخلية قد تيقنت أن الشيعة تخلوا عن تفاؤل مبالغ فيه بتصدير الثورة، أو عزل الشرقية، وصاروا أكثر واقعية بانتزاع تنازلات لتحسين وضعهم الطائفي.. وبهذا تمكنت الداخلية من شراء قيادات الشيعة: 1- بتحسين اوضاع الطائفة. 2- بالإغداق عليهم، حتى صار ما يصل لبعضهم من الدولة أكثر مما يصلهم من الخمس.. وبهذا نجحت الداخلية في محاصرة (حزب الله الحجاز) واعتقلت كثيرا من كوادره بعد أن ألصقت بهم أعمال عنف إلى أن جاءت حرب العراق فتغيرت التركيبة بالكامل.

المقصود، باختصار، أن احتلال أمريكا للعراق قوى الشيعة في المنطقة، ومكّنهم من إعادة تنظيم أنفسهم بتفاصيل خطيرة رصدتها الداخلية لكنها مشلولة أمامهم. المهم أن الشيعة جهزوا أنفسهم لكل الاحتمالات؛ من السكوت والتفاهم مع الدولة، إلى مظاهرات سلمية، إلى عمل عسكري كامل لفصل [المنطقة] الشرقية (التفاصيل لاحقا).

تعذيب وتلفيق تهم لـ"أقليات مزعومة"

نعود إلى التيارات السنية، وتحديداً الجهاديين، وماذا حصل لهم في نهاية التسعينيات، الاعتقالات التي تلت تفجيرات الرياض، في 1995، والخبر 1996، كانت موجهة لمن سبق أن ذهب لأفغانستان، بدرجات متفاوتة، من استجواب عابر، إلى سجن مفتوح.

وكانت الأحداث مفاجئة للداخلية، ولم تكن لديها خيوط محددة، والجهاز الأمني ضعيف تقنياً وخبرة، فلجأ لهذا الأسلوب الأقرب للمسح الشامل من البحث المحدد.. وقتها لم تكن خدمة الإنترنت قد انتشرت، ولا وسيلة أخرى، لكشف انتهاكات حقوق الإنسان، فمارست المباحث أسوأ اشكال التعذيب، التي وصلت لحد الاعتداء الجنسي.

المضحك المبكي أن الذين اعترفوا، تحت التعذيب، بتفجير الرياض، كانوا أكثر من ثلاث مجموعات، كل مجموعة تعترف، تحت التعذيب، وسجلت لهم الداخلية بالفيديو،. وأخيراً، وقعت الداخلية على المنفذين الحقيقيين، عن طريق الصدفة، وبادرت الداخلية ببث شريط الاعترافات لأربعة من المنفذين رغم أن 4 آخرين فروا لليمن. أما المجموعات، التي اعترفت تحت التعذيب كذباً، فقد بقوا في السجن إلى سنة 2000، حتى ينسى الناس الخبر، وأخذت عليهم تعهدات بعدم الحديث عن الموضوع.

وفيما كان نايف مسرورا بإعدام مجموعة تفجير الرياض، حصل تفجير الخبر، الذي فاجأ الداخلية، وخلط الأوراق، فشنت الداخلية حملة جديدة على الجهاديين، وفي نفس الوقت كانت هناك معلومات لدى الداخلية عن نشاط عسكري لـ "حزب الله الحجاز" الشيعي، فاعتقلت عدداً منهم في القطيف والدمام والأحساء، ثم، في نفس الوقت، طلبت الداخلية من النظام السوري، سنة 97، تسليمها شخص كان في إيران، يقال له "الشايب"، فقتله السوريون، وسلموه للسعودية جثة، وزعموا أنه انتحر. وسبب قيام السوريين بقتله هو أنهم لم يريدوا أي حرج مع إيران في تسليم مطلوب لديه معلومات عن إيران، وفي نفس الوقت لا يريدون رفض طلب السعودية، فأمر حافظ الاسد، الذي يعد من أخبث حكام العرب وقتها، بقتله وادعاء أنه انتحر، وتخلص من الحرج مع الطرفين. ثم كان هناك شخص آخر، في كندا، يقال له الصايغ، لم يتمكن السعوديون من طلبه، فنسقوا مع الامريكان أن يطلب من كندا لامريكا، ثم يسلم للسعودية، وتم الامر بالقبض على الصايغ. وحينها تمكنت الداخلية من بناء سيناريو مزعوم يحمل مسؤولية تفجير الخبر للشيعة بينما كانت لدى الداخلية أدلة كافية عن مسؤولية [تنظيم] القاعدة!

وكانت مجموعة من "القاعدة" قد اعتقلت بخيوط لها علاقة بتفجير الخبر، فأمر نايف بإبقائهم في مباحث الجبيل، وشكل لهم فريق تحقيق يتصل به شخصيا فقط.. وتبين أن قصة هذه المجموعة أكثر تماسكا من قصة الشيعة، خاصة وأن بن لادن نفسه تلى قصيدة، في إحدى بياناته، تبنى فيها المسؤولية عن تفجير الخبر. نايف لم يرغب، وقتها، أن يعتبره الغرب يواجه تحدياً من قلب المجتمع السني، وكان يريد أن يقال أن الخطر من أقليات مدعومة من إيران فروّج لقصة الشيعة.

وبسبب تهلهل القصة، وكثرة الثغرات فيها؛ اكتفت الداخلية بإيحاءات غير مباشرة عن مسؤولية الشيعة، ولم تعلن اعترافات، ولم تنفذ عقوبات ولا إعدامات.. وفيما كانت الاعتقالات في صفوف الشيعة نوعية دقيقة؛ فقد كانت في صفوف التيار الجهادي السني شاملة وتعرض كل المعتقلين لأسوأ أنواع التعذيب.
والتقرير الذي نشره د. محسن العواجي عن التعذيب في السجون يمثل هذه المرحلة التي فيها من القصص ما يندى له الجبين، وسوف أضع لكم رابطه في وقت لاحق.

تصدير الإرهاب

في نهاية التسعينيات وجهت القاعدة نشاطها بعيدا عن المملكة في عدن والصومال ومع طالبان ثم كينيا وتنزانيا فخففت الداخلية عليهم وأطلقت سراح الكثير.

كانت هذه الفترة من أكثر الفترات فشلا في تاريخ المباحث، حيث اكتشف، بعد أحداث سبتمبر، معلومات هامة عن نشاط الجهاديين؛ لكن فاتت الفائدة منها، وهي:

أن الجهاديين تمكنوا من تجديد دمائهم، والاستغناء عن الصف القديم، وتجنيد أعداد هائلة، والنجاح في إيصالها لأفغانستان عن طريق إيران وباكستان. وبعد مراجعة كشوف السفر، بعد أحداث سبتمبر، اكتشفت الداخلية أن أكثر من 10000 شخص توجهوا لباكستان وإيران في الفترة بين 1997 و2001 ولم يعرف مصيرهم.

واستنتجت الداخلية أن معظم هؤلاء دخلوا افغانستان والتحقوا بـ"القاعدة"، وأصبحوا من كوادرها الجديدة. وبعدها وقعت اللائمة الشديدة بين الداخلية والاستخبارات، والحقيقة أن الاستخبارات هي التي تلام؛ لأن تركي الفيصل أعطاه عبد الله (وقتها ولي للعهد) 5 مليارات ريال لملاحقة بن لادن ومراقبته ومن يلتحق به.. وقام عبد الله بهذا التصرف خدمة لأمريكا من أجل أن يقدم لها بن لادن على طبق من ذهب ويقطع عنه المدد البشري، فماذا اكتشف قبل سبتمبر ببضعة أشهر؟

اكتشف عبد الله أن تركي الفيصل وضع الـ5 مليارات في استثمارات خاصة به، واكتفى بشراء بعض المخبرين من باكستان، بميزانية تافهة لا تتعدى بضعة ملايين. ثم جاءت الأحداث لتجبر الداخلية على مراجعة الكشوفات، وتكتشف كيف غفلت الداخلية والاستخبارات عن دخول أكثر من 10000 سعودي لافغانستان قبل سبتمبر.

بقي الحديث عن الفرقة الجامية في نفس الفترة، بداية 1999، إطلاق سراح الشيخين، سلمان وسفر، إلى نهاية 2001 أحداث سبتمبر. بعد تصالح الداخلية مع سلمان وسفر وناصر العمر؛ قلت حاجة الداخلية للفرقة الجامية؛ لأن مشايخ الصحوة تبلغ مصداقيتهم مئات أضعاف مشايخ الجامية، وكان تفاهم الدولة مع سلمان وسفر وناصر العمر بمثابة تفاهم مع معظم التيار الديني في البلد لأن مشايخ الصحوة هم الأكثر نفوذا في المجتمع.

وازدادت الحاجة لمشايخ الصحوة بعد وفاة الشيخ بن باز، 1999، والشيخ بن عثيمين، 2001، مع أن بن عثيمين اختفى عن المشهد قبل أكثر من عام بسبب مرضه.. وكافأت الداخلية شيوخ الصحوة بتحجيم الجامية بشكل كبير، فأصبحت الجامية تعامل الداخلية والصحويين مثل إخوان يوسف؛ يحسدونهم على الحظوة عند نايف. وبسبب هذا "الحسد" وقعت الجامية في تلك الفترة بأخطاء كارثية تسببت في تشتتهم وانقلاب بعضهم داخل البلد؛ لكن جاءهم دعم لم يحلموا به. كيف؟

احتاجتهم الدولة لمساعدة حكام مصر والجزائر والأردن ودول أخرى فطلبت منهم تصدير الفكر الجامي لتطويع المتدينين للحكام في تلك الدول ودعمتهم بقوة. وفعلا انتشر الفكر الجامي انتشارا مفاجئا في تلك الدول إضافة لليمن والخليج وأوروبا!! وتمكن من الالتفاف على بعض السلفيين التقليديين خاصة في مصر. وهذا الجيش من مشايخ السلفية الذين دافعوا عن مبارك، ويدافعون عن الحكم العسكري في الجزائر واليمن، وغيرها، هم من نتاج الفكر الجامي القبيح.. نكون بهذا قد غطينا أحداث وزارة الداخلية مع التيارات الاسلامية في الفترة بين 1999 وأحداث سبتمبر نهاية 2001م.
تمت طباعة الخبر في: الأربعاء, 27-نوفمبر-2024 الساعة: 06:29 ص
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.lahjnews.net/ar/news-22226.htm