لحج نيوز/نبيل نايلي - تشهد عقيدة ديفيد بتريوس” العسكرية، التي عُرفت بالـ COIN، (Counter Insurgency Field Manual)، أو ما اصطلح عليها باسم عقيدة مكافحة التمرّد، تحوّلا جوهريا فرضه تخبّط القوات الأميركية بالعراق وأفغانستان وتعاظم الخسائر المادية والبشرية وانسداد الأفق باتجاه مخرج مشرّف. لقد كان ولا يزال هاجس واضعي الإستراتيجية العسكرية الأمريكية المستأنسة بسياسات ما يُسمّى ب”مكافحة الإرهاب”، هو إيجاد الحل الأمثل لمعضلة منع الجماعات المسلّحة من تهديد أمن ومهاجمة مصالح الولايات المتحدة الأمريكية، دون الانزلاق والتورّط في مسارح حروب جديدة مكلفة وطويلة الأمد. ولئن لم يُعلن حامل جائزة نوبل للسلام، أوباما، عن عقيدة خاصة به، انسجاما مع فلسفة القطع مع سياسات سلفه بوش، وعملا ب”هدي” نظرية جوزيف ناي،Joseph Nye ، القوة الناعمة، Soft Power، فإن المتابع المتنبّه يمكنه رصد عقيدة تتشكّل معالمها تدريجيا من خلال استخدامه المكثّف للطائرات من دون طيار، Drone Doctrine. طائرات استخدمها ولا يزال في أفغانستان والعراق وباكستان والصومال وليبيا واليمن شبه الجزيرة العربية، ويُضاعف من قواعدها أينما سُمح له بذلك. بالإضافة لقاعدتين أمريكيتين للطائرات بدون طيار، واحدة بجيبوتي، بمعسكر لومنيي،Camp Lemonier ، تحديدا، والثانية بجزر السيشيل، Seychelles Islands، بالمحيط الهادي، عزّزت الولايات المتحدة الأمريكية، تدريجيا، تغلغلها العسكري بأفريقيا من خلال إنشاء قاعدة جديدة، بأثيوبيا. هذه الخطوة تؤكد مجددا وبما لا يدع مجالا للشك أن التحوّل الذي تشهده العقيدة العسكرية الأمريكية، ليس من باب مجرّد التكتيك أو التكيف الميداني، بل يذهب أبعد من ذلك ليؤسس لإستراتيجية عسكرية بديلة: من حروب الخوصصة والشركات الأمنية إلى حروب الطائرات بدون طيار، Drones. تتحجّج الولايات المتحدة الأمريكية ككلّ مرّة بحربها التي لا تنتهي على “الإرهاب”، و بتعلّة ضمان أمنها القومي وحماية مصالحها الحيوية، أينما عنّ لها ذلك وكلّما توفّرت لها الذريعة المناسبة، وإن اقتضى الأمر اختلاقها أو زرع بذورها انتظارا لغد يكون فيه المسرح الجيو-إستراتيجي أكثر تهيئة. ولقد وفّر “شباب الإسلام”، كما باقي الجماعات المسلّحة المنتشرة داخل القارة الأفريقية والوطن العربي، المسوّغ والمبرّر ليكون القرن الأفريقي وشبه الجزيرة العربية مسرح رجالات البنتاغون ووكالة المخابرات المركزية الجديد، ليستخدموا بل ويحسّنوا من أداء “لعبة الموت” لحربهم المفضلة الجديدة، الطائرات المُسيّرة عن بعد. يتعزّز هذا الأسلوب كخيار إستراتيجي وذلك نظرا لعدة عوامل عسكرية واقتصادية وأمنية. إذ تمكن الطائرات دون طيار من اختراق مجالات وحدود عصية للتنصّت أو المراقبة أو تنفيذ عمليات عسكرية دون الحاجة لإرسال قوات على الأرض قد تسبّب أزمات دولية. كما أن كلفة هذا النوع من الطائرات مقارنة بالمقاتلات العادية لا يثقل كاهل ميزانية دفاع ذات أرقام فلكية. حيث أن ثمن ألف طائرة دون طيار يعادل ثمن طائرة أف – 15 “أيجل، Eagle”. كما أن وقود 200 رحلة بطائرة دون طيار يساوى رحلة واحدة بطائرة “أف–4 فانتوم الثانية” لنفس المسافة ولتؤدى نفس المهمة. أما من حيث تدريب الطيارين، فإن تكلفة تدريب الطيار على الطائرة تورنادو،،Tornado مثلا، تفوق الأربعة ملايين دولار، أما الطائرات من دون طيار فلا تحتاج لهذا الثمن الباهظ، كما تتطلّب ثلاثة أشهر فقط ليصبح المتدرّب محترفا. أما عن الجانب الأمني فبإمكانها الاضطلاع بمهامّها بكل تكتّم خصوصا ما تعلّق بالجوسسة والتنصّت والمسح الميداني. تنفّذ هذه الطائرات طلعاتها في سرّية تامة فوق الصومال، منطلقة من قاعدة مخصّصة للغرض تم إنشاؤها بمطار “اربا مينش، Arba Minch” المدني الواقع جنوب أثيوبيا. وليس اعتباطا أن تتولّى وزارة الدفاع والقوات الجوية الأمريكية بالخصوص استثمار الملايين من الدولارات من أجل تحديث هذا المطار وتأهيله ليستجيب للمواصفات والمهمات المطلوبة. فكان أن بنت ملحقا إضافيا مخصّصا لإيواء أسطول الطائرات المجهّزة بصواريخ : “نار جهنّم” هل فاير، Hellfire missiles ، والقنابل الموجّهة بالأقمار الصناعية، Satellite Guided Bombs. هذه المعلومات يؤكّدها الناطق باسم القوات الجوية، جيمس فيشر،James Fischer ، كاشفا أن “عدداً غير محدّد من عناصر القوات الجوية الأميركية يعملون في المطار الإثيوبي لتقديم الدعم الفنيّ والتقني لاستخدام البرامج وللمساعدة الأمنية”. كما أكّد جازما أن “الطلعات الجوية ستتواصل طالما أن الحكومة الإثيوبية ترحّب بتعاوننا بهذه البرامج الأمنية المتنوعة”. لم تكتف الوكالة الاستخبارات المركزية بذلك بل عمدت إلى إنشاء شبكة كاملة من القواعد المخصّصة للطائرات المُسيّرة عن بُعد ليس في القرن الأفريقي فحسب، بل في شبه الجزيرة العربية وفي جزيرة سوقطرة الواقعة بين اليمن والصومال. مصدر حكومي أمريكي كشف أخيرا أن الولايات المتحدة بصدد الشروع في تشييد قواعد جديدة بالعربية السعودية وأخرى بانجرليك التركية، Incirlik Air Base. وقد قفز عدد أسطول الطائرات بدون طيار من 50 طائرة كانت بحوزة البنتاغون منذ 10 سنين، ليبلغ 7000 طائرة، مما يكشف جليا أن المسألة لم تعد مجرّد تغيير في أسلوب التعاطي مع الحروب منخفضة الوتيرة، بل نهجا وخيارا استراتيجيا عسكريا جديدا. تنقسم هذه الطائرات إلى أنواع وأجيال مختلفة باختلاف المهمة واختلاف مسرح العمليات وحجمها. فمنها ما يُعرف بالبريداتوار، المفترسة، Predator ، وآخرها وأكثرها فتكا ما تُسمّى: آم كيو-9 ريبار الحاصدة، (للأرواح البشرية طبعا )، MQ-9 Reaper، التي يمكنها التحليق بسرعة 370 كلم في الساعة ويبلغ ثمنها ما يعادل 38 مليون يورو. هذا وتجري وزارة الدفاع الأمريكية تجارب على نوعية من المركبات الفضائية تحمل إسم آكس-37 بي، X-37B ، قادرة على التحليق لمدة 7 أشهر والعودة بمفردها إلى قاعدتها بعد إنجاز مهماتها، كما يمكنها تدمير أقمار صناعية عدوة قصد التعمية قبل الهجوم، وقذف قنابل نووية إن اقتضى الأمر. لهذا النوع من الطائرات استعمالات متعدّدة من الرصد إلى التنصّت إلى التقاط وتخزين الصور إلى المسح الميداني، فتسجيل المكالمات الهاتفية. كما يمكن تحويلها إلى طائرات مقاتلة حين تُزوّد بالصواريخ والقنابل، وتكفي كبسة زرّ ما في مكان ما من غرفة قيادة تقع على بعد 10.000 كلم، لتدمير الهدف المرصود. عدد ضحايا هجمات هذا النوع من الطائرات التي استخدمت بأفغانستان والعراق وباكستان وليبيا، وتُستخدم اليوم باليمن والصومال والقرن الأفريقي، فاق في باكستان وحدها الـ 2000، أي بمعدّل 10 إلى 15 مدني على كل مسلّح، دون أن يرفّ لحامل جائزة نوبل للسلام، جفن أو يعدّل حتى من وتيرة الهجمات التي تتمّ دون مساءلة وفي خرق لقوانين الحروب وتعدّ على سيادة الدول المعنية. يذهب بحاثة البنتاغون وخبراؤه داخل وكالة الدفاع للبحوث المستقبلية، Defense Advanced Research Projects Agency، أبعد من الاستعمالات العادية التي تعرّضنا لها تفصيلا، ليعملوا على تطوير تطبيقات وبرامج معلوماتية تمكّن الطائرات المُسيّرة عن بعد، UAV، Unmanned Aerial Vehicle، من العمل بمفردها على تعقّب وتحديد الأهداف، ثم تصفيتها، أو في الحد الأدنى رصدها وتعليمها أو إضاءتها لتمكين الطائرات الحربية من تدميرها. يتمّ كل هذا في تناغم وتنسيق بين كوكبة من الطائرات دون طيار تتولىّ توفير المعلومات، واستقبال وتبادل وتحليل قاعدة البيانات في سرعة قياسية، ثم أخذ التدابير الضرورية للتعامل مع الهدف وتصفيته. وكالة الاستخبارات المركزية عمدت إلى إنشاء “مركز الوكالة لمكافحة الإرهاب، CIA’s Counter Terrorism Center ” . كان هذا المركز يضمّ 300 موظف فقط سنة 2001، وتضاعف عددهم ليصل اليوم إلى 2000 عون ، أي ما يعادل نسبة 10 % من مجموع العاملين بالوكالة. لقد راكم هذا المركز طوال سنوات “الحرب على الإرهاب”، نفوذا وقوة وموارد إلى الحد الذي جعل منه “وكالة داخل الوكالة”. يلخّص موظّف سامي سابق بالوكالة كل ذلك بقوله:”لقد تم تحويل مؤسسة استخبارية تعمل بسرّية وتكتّم شديدين إلى آلة جهنّمية للقتل.” أما مركز القيادة فيقع بطابق منفصل يُطلق عليه إسم “قسم باكستان-أفغانستان، باد، Pakistan-Afghanistan Department. وقد تم إنشاء قسم مماثل لليمن والصومال خلال السنة الفارطة. وحين يُسأل رئيس قسم باكستان-أفغانستان عن الوتيرة المعتمدة للهجمات، يجيب دون مواربة: “نحن نقتل هؤلاء اللقطاء بأسرع ما يمكن حتى لا يتكاثروا! “ لم يحدث هذا الخيار العسكري تغييرا جذريا في الفكر الإستراتيجي الحربي فحسب، بل أجّج نار سباق عالمي محموم نحو التسلّح بهذه التكنولوجيا، حتى أن 50 دولة قد أقدمت على اقتناء طائرات دون طيار قصد المراقبة أو الهجوم. كنيث أندرسون، Kenneth Anderson ، أستاذ القانون بالجامعة الأمريكية والمختص بدراسة مدى قانونية استعمال هذه التقنية بالحروب، يصرّح: “هذا هو النهج الذي ستسلكه كل شركات تصنيع الطائرات، خصوصا أن العسكريين يعتبرون الطائرات دون طيار سلاحا غير مكلف وعالي الفعالية.” فإذا كان سعر آف -22 واحدة، يبلغ 150 مليون دولار، فإن تكلفة البريداتور بي أو الآم كيو -9 ريبار، لا يتجاوز 10 ملايين دولار. هذا ما يجعل هذا القطاع الأكثر دينامية وهذا ما يؤكّده تقرير أعدّه فريق تيل غروب،Teal Group ، الذي يخلُض إلى أن الاستثمار في هذا المجال سيضّاعف خلال العشرية القادمة ليبلغ 94 بليون دولار. الصين التي تدرك أهمية هذا القطاع فاجأت الجميع خلال معرض جوهاي الجوي الأخير، بإماطة اللثام عن 25 نموذجا من مختلف طائرات المُتحكّم فيها عن بعد، أحدثها المسماة WJ-600، بل ذهبت أبعد من ذلك لتعرض فيديو إشهاري لإحدى طائراتها دون طيار تطلق صاروخا يدمّر مدرّعة وطائرات أخرى تقصف حاملة طائرات أمريكية ! هل هو المؤشّر على قرب انتهاء الاحتكار الأميركي لهذا النوع من الطائرات؟ قلق الولايات المتحدة من تنامي القوة العسكرية الصينية يفضحه تقرير “لجنة المراجعة الأمنية للعلاقات الاقتصادية الصينية-الأمريكية”، الذي أكّد على أن الجيش الصيني قد نشر نماذج مختلفة من الطائرات دون طيار ذات القدرة الاستطلاعية والقتالية. طبعا ليست الصين وحدها من تحاول اللحاق بركب الولايات المتحدة في هذا المجال مما يطرح أسئلة عاجلة تتعلّق بمدى شرعية مثل هذه الهجمات، أولا، بمدى حدود السلطة الموسعة في الاستهداف وبمضاعفاتها على قوانين الحرب والمعاهدات الدولية، ثانيا، بالتبعات القانونية والسياسية التي ستواجه دولة أخرى ستسعى لمحاكاة الولايات المتحدة في استخدام هذه الطائرات، ثالثا. لعل هذا ما حدا بدينيس غورملي، Dennis Gormley، صاحب كتاب”عدوى الصواريخ، Missile Contagion ” والباحث بجامعة بيتسبورغ إلى القول: “إن الولايات المتحدة تضع معيارا دوليا جديدا وهو امتلاك الحق في استباق ضرب من تشك أنهم يخططون لهجمات ضدها.. وأكثر ما أخشاه هو تقليد صنيعها”. هل يبرّر مجرّد تفويض يتيم صادر عن الكونغرس، عقب أحداث سبتمبر 2001 في غمرة التعاطف الدولي مع الإمبراطورية الجريحة، يجيز استخدام القوة العسكرية أو ذلك “الحق”، المقتصر على الأقوياء فحسب، في الدفاع عن النفس الذي يكفله القانون الدولي في حالات الدفاع عن النفس، للولايات المتحدة الأمريكية لكي تواصل تغلغلها في وبسط نفوذها العسكري وتنفيذ هجماتها دون رادع؟ هل ستواصل الإمبراطورية إدمان حروب النانو-تكنولوجيا مسلّمة مقاليد اتخاذ قرارات مصيرية لآلات “ذكية” قد تتسبّب يوما ما في اقتراف المحظور النووي؟ هل يردع كعب أخيل البرمجيات ومنظومات المعلوماتية المتمثّل في القراصنة السيبيريين وزارعي الفيروسات الذين تمكنوا من مرة من الاختراق في أكثر. ألم تتمكّن المقاومة بالعراق من اعتراض وتخزين قاعدة بيانات لطائرة بدون طيار، بل وحرف مسار تحليقها، مستخدمة تطبيقة لا يتجاوز سعرها 26 دولار؟! ألم تكشف مجلة “وايرد، Wired” نبأ فيروس “كي لوغر، Key Logger” أو “راصد لوحة المفاتيح”، الذي يمكّن القرصان من تسجيل الأوامر المدخلة بواسطة المتحكمين بتوجيه الطائرات بدون طيار، مما يشكّل خطرا كونيا لا تحمد عواقبه؟؟ الإمبراطورية المترنّحة تدخل نفق قلق النهايات وليس ثمة ما يوحي بأنها تتعقّل… عقيدة أوباما، ذي القبضة الحديدية في قفاز الحرير، تتجاوز خطورتها ومضاعفاتها حروب بوش التقليدية. عسكرة الفضاء وتوظيف آلات النانو-تكنولوجيا (التقنيات المتناهية الصغر)، في خدمة إطالة أمد العصر الأمريكي، في عز عصر الإرهاب السيبيري، ينذر بانبلاج فجر حروب تكون فيه الحرب التقليدية، مجرّد نزهة…. لعل أصدق ما قاله الرئيس أوباما منذ توليه الحكم هو ما جاء تعقيبا على منحه جائزة لا يستحقها، أليس هو القائل: “وكي أكون صادقا، فإنني لا أشعر بأنني أستحق أن أكون في مصاف الكثير من الشخصيات البعيدة التأثير ممّن كرّمتهم هذه الجائزة من الرجال والنساء الذين كانوا مصدر إلهام لي وللعالم بأسره من خلال سعيهم الشجاع للسلام” !! *باحث في الفكر الإستراتيجي الأمريكي، جامعة، باريس.