الإثنين, 01-فبراير-2010
لحج نيوز - تحضرني باستمرار عبارة جميلة للكاتبة أحلام مستغانمي : " في أعماق كل امرأة بحيرة راكدة"، فأقول إن صفة الصبر فينا ، و صفة الصمت ، و كل الصفات الأخرى المشابهة لهما تجعل المشاعر في دواخلنا و الأفكار و الأحلام و حتى الشكوى تبقى آسنة تتعفن و تتكاثر فيها الطفيليات ، حتى تفقد كل جمالها و حقيقتها و أصالتها تماما مثلما لحج نيوز بقلم الهام ملهبي -

تحضرني باستمرار عبارة جميلة للكاتبة أحلام مستغانمي : " في أعماق كل امرأة بحيرة راكدة"، فأقول إن صفة الصبر فينا ، و صفة الصمت ، و كل الصفات الأخرى المشابهة لهما تجعل المشاعر في دواخلنا و الأفكار و الأحلام و حتى الشكوى تبقى آسنة تتعفن و تتكاثر فيها الطفيليات ، حتى تفقد كل جمالها و حقيقتها و أصالتها تماما مثلما تفقد مياه المستنقعات العذوبة الأصلية للمياه.
ربما لهذا السبب حين تكتب النساء يجعلن من الكتابة لعبة للبوح عبر تحريك تلك البركة الراكدة. فلا يفهم العالم لعبتهن هذه ، و يتم الزج بهن في تصنيف أدبي اسمه: " الأدب النسائي". هل هناك أدب نسائي و آخر رجالي؟ طبعا لا ، و قطعا لا. لأن النص حين يكتب يكون قبل كل شيء قطعة من ذات صاحبه ، سواء كان هذا الأخير رجلا أو امرأة. إذن فالكاتبات المصنفات في تلك الخانة لسن" أديبات نسائيات" ، بقدر ما هن "نساء يكتبن". و من يكتب ينطلق من جرحه الأول ، و من حلمه الأول. إنهن نساء يكتبن انطلاقا من الذات ، خاصة من المناطق المنسية في الذات. أو كما تقول أحلام مستغانمي: " الذات التي تسكن فيها مستنقعات أجيال من النساء المحكومات بالصمت".
مثلا حين تقول الشاعرة إيمان مرسال في إحدى قصائدها : ( اجلس أمام المرآة في تدريب شاق / لإزالة الرائحة التي تركتها شفتان على عنقي) ، إنها قمة الصدق الأنثوي ، و قمة الجرأة في تكسير كليشيهات الأنوثة. لم تعد المرآة هنا فخا تسقط فيه الأنثى لتفتخر بجمالها ، و لكنها صارت أداة للدفاع عن عمق الأنوثة. و لم تعد القبلة على العنق شبكة يصطاد بها الرجل المرأة ، بل صارت فعلا يترك على العنق رائحة تتطلب مشقة لإزالتها ، و إزالة- ربما- الإحساس بالقرف منها. كلنا نحمل بداخلنا امرأتين متصارعتين ، و لكننا لا نجرؤ على إخراجهما لتمارسا صراعهما علانية ، إيمان مرسال جعلتهما – بصدق – تتواجهان في ذلك التدريب الشاق أمام المرآة.
إن الكتابة طموح للرقي بالذات ، و الصعود بها خارج الشروط الاعتيادية للواقع، و الاتجاه بها نحو صدق كامل ، و جمال كامل ، و وعي كامل، و التحول بها من ذات تقليدية إلى ذات أكثر نقاء و أكثر صفاء و أكثر قربا من المعنى الأصيل لكلمة إنسان. و هذا ببساطة ما تقوم به النساء في الكتابة ، يحاولن الخروج من الذات المستكينة و المنكمشة و الخجولة و غير العميقة، نحو ذات أنثوية أكثر فعلا ، و أكثر جرأة. و لكن إعلان الثورة هذا لا يقابل إلا بالتصنيف في الخانات المجهزة سلفا. حين يكتب الرجل تسمى كتابته "أدبا" و حين تكتب المرأة تسمى كتابتها "أدبا نسائيا".
غير أن هناك كاتبات استطعن بجدارة أن يراوغن هذه التصنيفات و يحيرنها و يشعرنها بالارتباك. مثل هدى بركات في "حجر الضحك" أو في "أهل الهوى" أو في "حارث المياه" . خاصة في "حجر الضحك" حين كتبت – و هي امرأة- عن "خليل" الرجل ذو الميولات الجنسية المثلية ، و استطاعت - بإتقان و احترافية المبدع الأصيل- أن تأخذنا إلى دواخل هذا الشخص ، و جعلتنا نحس باختلاجاته ، و اضطراباته، و مشاعره حين يحب رجالا من نفس جنسه . و نقلت إلينا ألمه و هو عاجز عن الاندماج و الانسجام في مجتمع قاس ، ليس فقط بحربه و لاإنسانيته و جرمه ، و لكنه قاس أيضا لأنه يصنف "خليل" في خانة الشذوذ ، فيبقى عاجزا عن البوح بحبه لكل أولئك الذين خفق قلبه بحبهم ، و جافاه النوم لأجلهم ، و مزقه الحزن حين أخذتهم منه الحرب. أليست قمة الإبداع أن تكتب المرأة عن دواخل الرجل ، و ليس أي رجل ، و لكنه رجل مثلي الجنس. نفس الشيء تفعله هدى بركات في" حارث المياه" حين تصف بدقة كيف تتحرك الرغبة الجنسية داخل الرجل ، و كيف تستيقظ قنوات الاشتهاء ، و كيف يصل إلى ذروة اللذة، و ذلك في صفحات عديدة من الرواية حين تتحدث عن علاقة بطل الرواية بالخادمة "شمسة".
إن المرأة حين تكتب تستطيع أحيانا أن تنتصر ليس فقط لذاتها أو لجنسها ، و لكن أن تنتصر للإنسان.و هذا ما تفعله هدى بركات ، و كاتبات عربيات أخريات. لذلك يجب الخروج من التصنيفات الثنائية و المصطلحات التي تعزل النساء في جهة و الرجال في الجهة المقابلة ، وتصنف أي أدب تكتبه امرأة في خانة ضيقة . قد يكون ما تكتبه النساء يحمل خصوصية ما ، غير أن ذلك يرجع بالدرجة الأولى لخصوصية تجارب المرأة و خبراتها في الحياة التي تختلف في أوجه كثيرة عن تجارب الرجل و خبراته، ، فالتكوين الاجتماعي للمرأة هو الذي يؤثر على خصوصية تجاربها وليست الكتابة هي التي تفرض عليها ذلك. و على العموم تبقى المعايير التي نحكم بها على أي نص أدبي هي معايير الجودة ، فالأدب إما أن يكون أدبا حقيقيا يملك كل مقومات الإبداع و أدوات الجمال اللغوي ، أو لا يكون أدبا .

كيف يمكن أن يعبر الأدب عن المرأة ؟ هل كل نص أدبي كتبته امرأة يمكن أن يتصف بهذه الصفة ؟ لا أعتقد ذلك . و لكي أذهب عميقا في التدقيق سأبدأ بهذا المثال من قصيدة " كن صديقي " للشاعرة سعاد الصباح :

كن صديقي

ليس في الأمر انتقاص للرجولة

غير أن الرجل الشرقي لا يرضى بدور

غير أدوار البطولة

هنا في هذا المقطع ، الموضوع عن المرأة . و لكن هل يمكن أن نعتبر القصيدة تعبر عن المرأة ؟ أنا شخصيا أراها تحمل فكرة جاهزة ، أو لنقل رسالة صريحة ، بحثت لها الشاعرة عن صيغة أدبية ترسلها عبرها. و لكن هل عبرت عن عمق العلاقة بين المرأة و الرجل في مجتمعنا؟ ربما، و لكن بشكل صريح غير عميق ، إنها قصيدة الموقف الصريح .( لم أستعمل هنا كلمة غير عميق بنفحة تقييمية و ليس بالمعنى المرادف للسطحي، فأنا أقدر كثيرا كتابات الشاعرة الجليلة سعاد الصباح) .
المثال الثاني : العديد من قصائد الشاعر نزار قباني كتبت بلسان أنثوي أو كتبت عن الأنثى . هل تعبر أشعار نزار قباني عن المرأة؟ إن المرأة في العديد من نصوصه مختزلة في عطر و فستان و ألوان و أثواب مخملية و ضعف و استسلام أمام الرجل .
مثال آخر هو الكتابات الأدبية للدكتورة نوال السعداوي : جميع روايات نوال السعداوي مشحونة بالمواقف النسوانية ، و لكن بأسلوب ينقصه الكثير من الحمولة الفنية . فرواية " امرأة عند نقطة الصفر" سخرتها الكاتبة لتطرح موقفا عدائيا من الرجل ، حيث تصوره كائنا مقرفا به جميع التشوهات الخلقية التي تعبر عن تشوهات أخرى نفسية . كما تصور الرواية المرأة كائنا مغلوبا على أمره أمام عدوه الرجل ، تجسد هذا الموقف في بطلة الرواية التي تلاحقها الويلات و المصائب منذ بداية الحكاية حتى نهايتها، و يلات و مصائب كلها بسبب الرجل ( مرة يبيعها زوج أمها ، و مرة يغتصبها زوجها المشوه خلقيا ، و مرة يبيعها رجل آخر احتمت به بعد الهرب من زوجها ...).
أما رواية " امرأتان في امرأة" فسخرتها الكاتبة للتعبير بشكل صريح عن مواقف واضحة تمثلت في التعبير عن التناقضات التي تعيشها المرأة داخل مجتمع يكبت التحرر داخلها ، و لكن مرة أخرى بعدائية صريحة للرجل ، و بتصوير شبه مبالغ للصراعات الداخلية التي تحسها المرأة ، حيث أن بطلة الرواية تسعى لتحرير جسدها من العقد عبر التشبه بحركات الرجل ، فتصف لنا صفحات الرواية كيف أنها أصبحت تمشي مثل الذكور بساقين منفرجتين ، و كيف أعطاها هذا الأمر إحساسا بأن منكبيها أصبحا عريضين و هي تقلد هذه المشية ... إلى غيرها من التوصيفات الدقيقة لهذه الحالة.
هكذا تصبح شخصيات نوال السعداوي شخصيات افتراضية ، و لسن نساء يعشن في هذا الواقع يمكن ان نصادفهن بشكل يومي.

أعطيت هذه الأمثلة لأصل الى الاجابة عن سؤال : كيف يمكن أن يكون الأدب معبرا عن المرأة؟

الأمثلة السابقة كتبتها نساء ( أشعار نزار قباني كتبت بلسان المرأة) ، و المفترض أنها تعبر عن النساء. و لكني شخصيا أراها لا تصل إلى عمق النساء ، على خلاف أعمال أدبية سأصفها بأنها عزفت على أوتار الجراح الحقيقية و السرية داخل كل امرأة. إنها أعمال أدبية لنساء يكتبن انطلاقا من الذات ، و كتاباتهن توجه رأسا الى الذات الأنثوية. أعمال لكاتبات عربيات امتلكن الجرأة لكشف الجرح ، في وقت كان فيه الأدب يحوم حول الجرح من فوق. جيل جديد من نساء يكتبن لصالح جنسهن.
و لكن لماذا لم تنحو الكاتبات العربيات هذا المنحى من قبل؟
فدوى طوقان، التي كان محظورا عليها حظرا صارما أن تغادر البيت ، طلب منها والدها أن تكتب الشعر السياسي و أن تضع موهبتها في خدمة شعبها ، فكان جوابها : "من أين يتوفر لي الجو الفكري والنفسي لأكتب مثل ذلك الشعر ؟ هل أستمده من قراءة الجريدة التي كان أبي يحضرها في ظهيرة كل يوم حين يعود إلى البيت لتناول الغداء ؟ ان قراءة الصحف على أهميتها لم تكن كافية لانبعاث جذوة الشعر السياسي في أعماقي ، لقد كنت معزولة عزلة تامة عن الحياة الخارجية ، وكانت تلك العزلة مفروضة عليّ فرضا ولم أخترها بارادتي" . (" دراسة في سيرة فدوى طوقان" للكاتبة نادية عودة )
عجزت الشاعرة عن الكتابة عن المعارك السياسية التي لا تعرف عنها شيئا ، و لكن كان بإمكانها أن تكتب عن قضية اخرى لا تقل أهمية عن قضية الاستقلال. قضية تنطلق من ذاتها و تصل إلى ذوات جميع النساء. كانت تعيش العزلة و قمع الحرية مثل جميع نساء جيلها ، و كان هذا الحبس سيكون مادة خصبة للكتابة . غير أنها انتظرت وفاة والدها كي تخرج لساحة المعركة و تتمكن من تسخير قلمها لقضية الوطن.
مي زيادة و نازك الملائكة و عفيفة كرم .... و أسماء عديدة من نساء الجيل الأول لم يكتبن عن ذواتهن. هل لأن الوعي بقضية المرأة لم يكن قد اختمر بعد في مجتمعاتنا؟ أم أن سلطة المجتمع على النساء كانت ما تزال أكثر قوة منها الآن؟ أم أن الجرأة كانت تنقص القلم المذكر و المؤنث على حد سواء؟
ربما هذه الأسباب و غيرها اجتمعت لتمنع تحرر أقلام النساء من الكثير من السلط .
قد تكون نوال السعداوي من السباقات لطرق مثل هذه الأبواب ، و لكن قلمها الأدبي كان صريحا حد الجفاف. إن نوال السعداوي كباحثة و كمناضلة نسوية تعتبر عمودا أساسيا في تاريخ الحركة النسوية العربية ، و لكن كأديبة لا أعتقد أنها مرجع يمكن أن يعتمد عليه.
منذ تسعينيات القرن الماضي – و ربما قبل ذلك بقليل- انطلقت أقلام النساء تعري جراح الذات ، و تعبر عن أسرار القلب و العقل و الروح و الجسد . شاعرات و روائيات و قاصات انطلقن يخبرن عن وجودهن كنساء ، و عن حقيقة الاختلاجات النفسية في أعماق المرأة ، و عن الحب كيف تراه النساء ، و عن صراع المرأة مع الجسد و من أجل الجسد، و عن الرجل بعيون المرأة.
في قصة " رائحة القسوة" للقاصة المغربية لطيفة باقا نعيش مع البطلة ألم تلقيها خبر ضرورة استئصال رحمها ، و نتبع معها خط الذكريات و الألم ، ذكريات خطها عشاق غير مخلصين ، بل لا يرقون إلى مستوى تخيلها للحبيب المفترض : ( يمكنني الأن فقط أن أقتل كل الذين أساءوا إلي خلال وجودي القصير في هذه الدنيا ، معلمتي (.....) و الجزء الأكبر من العشاق السابقين الذين كان يحلو لهم فيما يبدو عصر قلبي الغبي بين أياديهم)
خط ألم طويل يجعلنا نتساءل بأسى عن جدوى حياة امرأة دون عضو بالغ الأهمية في مسألة وجودها كأنثى و نحن نتابع قولها : (يبدو أني سوف أفشل تماما في التفكير في شيء جميل من الآن فصاعدا ، سيستأصلون رحمي.. لن يكون بإمكاني إنجاب طفلتي ، كنت أحلم أن يكون اسمها نورس) ، و أيضا حين تقول : ( البرودة سوف تتفشى يوما عن يوم في جسدي و في الغرفة .. و في علاقتي بالآخرين.. برودة حقيقية . أرتعش .. من الخوف و من الوحدة .. أشعر أن جسدي مصاب بالموت)
الخوف من شبح الوحدة ، هاجس يمكن أن يقلق امرأة ستفقد رحمها ، و أيضا أي امرأة أخرى تعيش في مجتمع تحكمه معايير تصنيفية رهيبة ، يمكن أن تصنف ببرود امرأة في خانة العنوسة و تعزلها عن دفء الحياة ، أو تصنفها في خانة غير الجميلات ( بمعيار سطحي لتحديد الجمال) فتصبح فريسة لهواجس الوحدة الأبدية. بهذا يمكن أن تكون قصة " رائحة القسوة" تصور لنا ليس فقط ألم امرأة سيستأصل رحمها ، و لكن ألم العديد من النساء اللواتي يعشن تحت رحمة قسوة بيد طويلة ، يمكن أن تطالهن حتى في أبعد المسافات.
لطيفة باقا ليست سوى مثالا عن كاتبات عربيات أصبن و أجدن في الكتابة عن الذات الأنثوية ، أذكر منهن على سبيل المثال لا الحصر : حنان الشيخ في " أكنس الشمس عن السطوح" ، ايمان مرسال في " ممر معتم يصلح لتعلم الرقص" ، أحلام مستغانمي في " ذاكرة الجسد" و " فوضى الحواس" ، حميدة نعنع في " من يجرؤ على الشوق" ، و فاء مليح في " عندما يبكي الرجال" ، زينب حفني في " نساء عند خط الاستواء"....
في أحيان كثيرة يتم النظر باستصغار الى القضايا التي تطرحها النساء في كتاباتهن ، التي قد تبدو مجرد تفاهات نسائية تصلح للثرثرة و النميمة و ليس للكتابة . و لكني أقول إن جل ما تطرحه كاتباتنا من أفكار ، بقدر ما قد تبدو لنا ضئيلة و تفصيلية ، فهي على قدر بالغ الأهمية في حياة النساء. لا أحد غير امرأة واعية قد يفهم معاناة امرأة أخرى، لا أحد يمكن أن يفهم ما يمكن أن يفعله الصمت بالمرأة غير امرأة من جنسها ( أقصد الصمت بالمعنى المقابل للبوح).
إذن هي كتابات البوح الأنثوي الواعي.


[email protected]
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 01:20 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.lahjnews.net/ar/news-2519.htm