بقلم/جميل مفرح -
كادَ أنْ ينهرَني احتمالي حينَ أبَتْ أنْ تُدحرِجَ عينيها مِنْ عَلَى كاهِلِي.. قيَّدَتْني بإمعانِهما إلى مقعدي كصليبٍ قَديمٍ، ذِرَاعاهُ مَبتورانِ وعَيناهُ مَطموستانِ ببقايا طائرٍ عَجوزٍ.. كانتْ تستمتعُ بتذوُّقِ سُمْرتي الشَّرقيَّةَ الَّتي سُرعانَ ما احتَدَّتْ وأنا أفتِّشُ عن مَفاصِلِ ذِرَاعيَّ وعَنْ ثُقبَي عينيَّ المُكَبَّلتَينِ.. كانتْ ابتِسَامتُها الطَّفيفةُ تُلامِسُ كُلَّ أجْزائي وأنا أُجاهدُ ما استطعتُ للتهرُّبِ مِنَ الإجابةِ عَلَى أسئلةِ الاختناقِ بنفسي.. أتلفَّتُ حَولي فَلا أجدُ لي حَولاً ولا جِهاتٍ.. وأُصارِعُ اللاشيءَ لأتبرأَ مِنْ عَينيَّ المُستغيثَتَينِ بِهِ.
***
أتشبَّثُ بقراصِنةِ الَّلحَظَاتِ الأخيرةِ فيتَجَاهلونَني مُنغَرِسِينَ وراءَ المقعدِ المُقابلِ، يُوسعونَني تَهَامُساً مِنْ بَعيدٍ.. فلا يبدو لي غيرُ ألْسِنَةٍ جِلديَّةٍ مُبلَّلةٍ بالنَّميمةِ والحَسَدِ..
يتبرَّؤون مِنْ أرجُلِهم المَغرُوسةِ خَلفَ المقعدِ ويبتعدونَ مَلِيَّاً باتِّجاهِ البَحرِ.. يأخذونَهُ بينهم في مُشَادَّةٍ كَلامِيَّةٍ تحجُبُها المَسَافةُ وتفضَحُها للإدراكِ حَرَكَاتٌ آليَّةٌ بعيدةٌ..
يَهدأُ القراصِنَةُ والبَحْرُ لبُرْهَةٍ قصيرَةٍ, يَعُودونَ عَلَى إثْرَها سِرَاعاً، تُسَابِقُهم عُيونٌ ظَمْأَى، ليلتصِقُوا - مُجَدَّداً – بأرجُلِهم القَديمةِ خلفَ المقعدِ.. يَرتعِشونَ لِزارٍ ممسوسٍ، فَيهتزُّ بيننا كَأسُ العَصيرِ مُنْهَزِماً عَلَى الطَّاوِلةِ الشَّاسِعةِ، بينما يَتَمَاسَكُ فنجانُ القَهوةِ ويَستأنفُ مُشوارَهُ المُتَسَارِعَ إلى الجَلِيدِ.. وأخيراً يبدأُ القَرَاصِنةُ في اسْتِرجاعِ غَجَرِيَّتِهم.. يُغنُّونَ...، يَرقصونَ...، يَضْطَرِبُ البَحْرُ ويَنكسِرُ نَايُ الزُّرْقَةِ المُمْتَدُّ بين وجهِهِ وملامحِ السَّمَاءِ..
***
نَادِراً جِدَّاً ما يُريدُ القَرَاصِنةُ أن يكونوا لُطَفاءَ، وأندرُ مِنْ ذلكَ أنْ يتمكَّنوا مِنْ تَخليصِ أعْيُنِهم مِنْ الغِطَاءاتِ المُلْتَصِقةِ بها.. وهَا هُم الآنَ يَتأجَّجونَ فيَلْتَهِمُونَ ما يَفصلُنَا عنهم مِنْ لَحَظَاتٍ وخُطُواتٍ ومِنْ طاوِلاتٍ وكَرَاسٍ مُسْتَسلِمَةٍ للاحتِراقِ بِمَوعِدِنا.. ها هُم يُحوِّلونَ جَمْهَرةَ الجَمَاداتِ مِنْ حَولِنا المفقودِ إلى رمادٍ دَبِقٍ، ويَقترِبُونَ أكثرَ.. يَلتِهمُ الرَّقصُ ما يُشَارِكُنا اللَّحظةَ مِنْ سِوَى.. وتَتَبرَّعُ السَّماءُ بقليلٍ مِنَ الرَّذاذِ ليَهدأَ الُمحِيطُ بالاً.. بينما يَسْتَثمِرُ رَمَادُ الكَرَاسيِّ والطَّاوِلاتِ الرُّطوبةَ ليَنبتَ عَلَى وجْهِهِ جِيلٌ جَدِيدٌ مِنَ القَرَاصِنةِ الرَّاقِصِينَ.. يَلتفتُونَ إلى البَحْرِ، يَحنُونَ – لِهَدِيرِهِ وانْشِغالِهِ بالغُروبِ الوَشِيكِ- قَامَاتِهم المُطاوِعَةَ للانْحِنَاءِ.. وحِينَ يَستديرونَ، تُحَيِّينَا مِنْ جِبَاهِهم آثَارُ أقْدامٍ لِصِبْيَةٍ كانوا يَلْعَبُونَ قَبْلَ قَلِيلٍ عَلَى لآلئِ الشَّاطئ..
***
الجِيلُ الجَدِيدُ مِنَ القَرَاصِنةِ مُنْفَتِحونَ، ولكنَّهم لا يَسْتَطِيعونَ إلا أنْ يُحيوا تُرَاثَ أجدادِهم ومَلْحَميَّاتِ آبائِهم.. ها هُم يُثيرونَ مِلْحَ المُحيطِ ويَدعُون أعيُنَنَا للرَّقْصِ...، الرَّقْصِ!! ولكنِّي لا أتحرَّكُ!! مُلتصِقٌ بمقعدي الَّذي أصبحَ بِدورِهِ جُزءاً مِنْ شُرْفَةٍ مُدَلَّاةٍ عَلَى قروشِ وعَوَاصِفِ البحر..
...، وعينايَ!! عينايَ لمَّا تستطيعا بعدُ التَّخلُّصَ مِنْ بَقَايَا الطَّائِرِ الهَرِم..
...، وهِيَ تُتْقِنُ بِناءَ ظَهْرِها باتِّجَاهِ السَّيِّدِ البَحْرِ والآنِسَةِ السَّمَاءِ وهما يَتَقَاسَمانِ ثَوبَهُما الأزرقَ المُزَرْكَشَ بالأمواجِ البَيضَاءِ والسُّحُبِ الدَّاكِنةِ.. وأيضاً باتِّجاهِ الأجيالِ المُتَعَاقِبةِ مِنَ القَرَاصِنةِ الرَّاقِصينَ.. تَتَحَوَّلُ الطَّاوِلةُ إلى شاحِنةٍ هائِجةٍ تُسابِقُ الرَّمَقَ والنَّظَرَ.. وعَينايَ الآليتانِ إلى مِرْآتَينِ جَانِبيَّتَينِ، تَكْتَفِي بهُما "المغربيَّةُ" لمُراقبةِ الجَميعِ مِنْ خَلْفِها.
————————
★ من كتاب (ربطة عنق أنيقة) الذي سيصدر قريبا جدا