لحج نيوز/من هايل المذابي - لعل من الصواب علينا قبل الشروع في قراءة مسرحية " دجلة الشهيد " للأديب " عبدالله عباس الإرياني " قراءة واعية أن نفهم سيكولوجية القناعات وأنماطها، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاثة أنواع : الآراء ,القناعات ,العقيدة..
فأما الرأي فهو أمر نشعر نسبياً باليقين به, غير أن هذا اليقين يبقى مؤقتاً. إذ أن من الممكن له أن يتغير بسهولة. فترس طاولتنا الإدراكية تسنده أرجل مرجعية مقلقة لم يتم تمحيصها, وربما كانت تقوم على مجرد انطباعات لا غير فالآراء قابلة للتحول خلاف الحقائق, وهي تبنى عادة على مرجعيات قليلة يركز عليها المرء في لحظة ما من لحظات حياته, أما القناعة فهي تتكون حين نبدأ في تطوير المزيد من المرجعيات المساندة, خاصة المرجعيات التي تسندها عاطفة جياشة. وهذه المرجعيات تعطينا شعوراً شديداً باليقين بشيء ما. غير أن علينا أن نؤكد, أن هذه المرجعيات قد تكون بأشكال متنوعة بحيث تشمل تجاربنا الشخصية والمعلومات التي استقيناها من مصادر أخرى ,بل وحتى أشياء تخيلناها بشفافية .
لا شك أن الناس الذين يحملون قناعات لديهم مستوى قوي من اليقين. بحيث أنهم يصبحون مغلقين أمام الإقتناع بمعلومات جديدة. غير أنك إن استطعت التواصل مع هؤلاء الأشخاص والتواؤم معهم فقد تستطيع التغلب على هذا الإنغلاق بحيث تدفعهم إلى التساؤل حول مرجعيتهم , وبذلك يتقبلون معلومات جديدة. وهذا من شأنه أن يخلق قدراً من الشك بحيث تهتز مرجعياتهم القديمة مما يتيح المجال لقناعات جديدة.
وهذا ماكان تفعله شخصية " الصوت " طيلة فصول مسرحية "دجلة الشهيد " مع الجميع .
أما العقيدة فهي تتغلب على القناعة ,وذلك لأن الناس يربطون فكرة ما بقوة عاطفية جديدة .فالشخص الذي يحمل عقيدة لا يكتفي بالإحساس باليقين بها بل يغضب إذا وضعت هذه العقيدة موضع التساؤل, وهو لا يقبل أن توضع مرجعياته موضع التساؤل ولو للحظة واحدة، وهكذا ظل الإمام أحمد في دجلة الشهيد يعزز من هذه العقيدة لدى الجماهير "الأصوات" إذ ظل الجميع يرددون فكرة "الإمام أحمد المتحكم في الجن وما إلى ذلك" ، وبالمثل فإن المتعصبون على مدى التاريخ يتمسكون بما يعتقدون به إلى حد الهوس بحيث أنهم يبدون استعداداً للقتل دفاعاً عن قناعاتهم وهذا هو ما دفع كثير من الناس أيام الحكم الإمامي في اليمن الشمالي حينها " بالتقطرن " احترازاً من الجن بناءً على توجيهات الإمام أحمد, وكما نجده أيضاً للتأكيد على ذلك في دجلة الشهيد، وهو نفسه ما دفع مجموعة من الناس الذين يعيشون في غايانا لدس السم لأطفالهم في شراب الكول إيد لقتلهم ثم تناوله هم أنفسهم بناءً على توجيهات مهووس أطلق على نفسه صفة المسيح ويدعى " جيم جونز " .
ليست المعتقدات المتحمسة قصراً على المتعصبين فقط, بل نجدها أيضاً لدى أي شخص يلتزم التزاماً كافياً بفكرة أو مبدأ أو قضية ويكرس نفسه لها .
وربما كان العامل الأكبر الذي يفرق بين القناعة والعقيدة هو أن العقيدة تنبع عادة من حوادث عاطفية يربط الذهن بينها وبين القول " إن لم أؤمن بهذا سأتعرض لألم شديد. ولو غيرت هذه القناعة فإنني سأفقد الهوية التي تميزني تماماً وكل ما نذرت حياتي من أجله لسنوات " وهذا ذاته ما كانت تخافه الجماهير دائماً في مسرحية "دجلة الشهيد" الخوف من فقدان الهوية .
فالتمسك بالعقيدة بهذا الشكل إذاً يصبح أمراً حاسماً بالنسبة لبقاء الإنسان وحياته. وقد يكون هذا أمراً خطراً, إذ أننا إن لم نكن نبدي أي رغبة في التفكير باحتمال أن تكون قناعاتنا غير صحيحة فإننا سنقع في فخ التصلب الذي قد يؤدي بنا في النهاية إلى الإخفاق, ومن الأفضل للإنسان أن يكون مرناً في قناعاته في بعض الأحيان وهذا بالضبط مالم يتقبله الإمام أحمد كما توضحه المسرحية التاريخية "دجلة الشهيد " المرونة ، رغم كل العروض التي قدمت له من قبل سواءً أخوته أو حتى الثوار الذين انقلبوا عليه وكانوا ضباطاً في جيشه وأنتهى بهم الأمر من ثم بإعدامهم .
رغم ذلك فالمعتقدات تتسم بالإيجابية نظراً للعاطفة التي توحي بها لنا بحيث أنها تمنحنا قوة تحملنا على القيام بالفعل وهذا هو ما حث الثوار على الاستمرار في ما بدأوه وضحوا بأنفسهم من أجله مستمتعين غير آبهين، أليست دجلة الشهيد أكبر مثال على ذلك ..!!؟
ولعل أجمل ما تطالعنا به مسرحية "دجلة الشهيد " التاريخية أن عقيدة المؤمنين بالثورة وأهميتها ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بوجودهم في الحياة وكانت مشبوبة بعاطفة جياشة كُتب لأهلها النصر في النهاية، أمام عقيدة الجماهير " الأصوات " المرتهنة للأمام أحمد بدافع الخوف وليس الحب .
ونعتبر أن أهم التحديات الخاصة بالمعتقدات " معتقد الأصوات في مسرحية دجلة الشهيد إنموذجاً " هو أنها كثيراً ما تبنى على أساس حماس الناس وتبنيهم قناعات غيرهم. ففي الكثير من الأحيان يؤمن الناس بأمر ما لأن كل الآخرين يؤمنون به ( هذا ما وجدنا عليه أباؤونا الأولين ) وهذا ما يسمى في علم النفس بالبرهان الاجتماعي .
غير أن هذا البرهان الاجتماعي ليس صحيحاً دائماً .فالناس حين يكونون غير واثقين مما يتوجب عليهم أن يفعلوا يتوجهون إلى الآخرين لكي يوجهوهم ولأجل ذلك ظل الإمام أحمد يوجه الجماهير بسياطه وسيف الوشاح.
لقد أستطاع أن يحولهم إلى مجرد قطيع من الكباش وهو الأمر الذي سنقف عليه في الجزء التالي من هذه القراءة .
ونخلص من ذلك إلى أن سلطة القناعات وتنميتها وهو ما دأب " الصوت " في مسرحية "دجلة الشهيد " إلى تطويرها ضد قناعات الإمام أحمد التي سيطر بها في المقابل على " الأصوات " كانت السبب في تعاسة هؤلاء وسعادة أؤلئك أي " المنقلبون الثوار " وأدت في نهاية المطاف إلى إنتصارهم وإعادة صياغتهم لعالمهم الذي يعيشون فيه , وراهنوا عليه منذ البداية وحتى ليلة 26 سبتمبر ...
• الأغيار أو الجوييم في مسرحية " دجلة الشهيد "
يقول بوذا : " كما يفكر المرء في أعماق قلبه ,هكذا يكون "..
لقد استطاع الإمام طيلة الوقت كما تجسد "دجلة الشهيد " منذ البداية أن يقنع الجميع بأنهم كباش وقطيع لا أكثر وهو السيد والحاكم المطلق ومن يخالف ذلك فسيف "الوشاح " ينتظر قطع عنقه ، بل لقد أراد أكثر أن يتذللوه تذلل الكباش وأن يتصرفوا وفقاً لهواه وماتمليه عليهم طبيعة الكباش وهذا ليس لأنه حاكمهم بل لأنه لايرى في أصلهم شيء له قيمة سوى العبودية له فعاملهم معاملة الأغيار أو "الجوييم.
يقول الدكتور عبد الوهاب المسيري عن الأغيـــار (جـوييم) Gentiles; Goyyim ، أن «الأغيار» هي المقابل العربي للكلمة العبرية «جوييم»، وهذه هي صيغة الجمع للكلمة العبرية «جوي» التي تعني «شعب» أو «قوم» (وقد انتقلت إلى العربية بمعنى «غوغاء» و«دهماء»). وقد كانت الكلمة تنطبق في بادئ الأمر على اليهود وغير اليهود ولكنها بعد ذلك استُخدمت للإشــارة إلى الأمم غـير اليهــودية دون ســواها، ومن هنا كان المُصطلَح العربي «الأغيار». وقد اكتسبت الكلمة إيحاءات بالذم والقدح، وأصبح معناها «الغريب» أو «الآخر».. وهذا ما كان يجسده الإمام أحمد أيضاً طيلة أحداث المسرحية التاريخية " دجلة الشهيد " وفصولها .
وبالمثل نجد النزعة الحلولية المتطرفة، التي تتبدى في التمييز الحادّ والقاطع بين اليهود كشعب مختار أو كشعب مقدَّس يحل فيه الإله من جهة والشعوب الأخرى التي تقع خارج دائرة القداسة من جهة أخرى. فقد جاء في سفر أشعياء (61/5 ـ 6): "ويقف الأجانب ويرعون غنمكم ويكون بنو الغريب حراثيكم وكراميكم. أما أنتم فتُدعَون كهنة الرب تُسمَّون خدام إلهنا. تأكلون ثروة الأمم وعلى مجدهم تتأمَّرون". وذلك ذاته ما رآه الإمام أحمد في تلك الجماهير " الأصوات " كما تصورها دجلة الإرياني حيث رآهم أغياراً وقطيعاً سُخرت من أجله .
وأورد كلاماً للمسيري يمكن مطابقته مع مسرحية " دجلة الشهيد " للإرياني وصنع مقارنة تؤكده أو تنفيه .
يقول: ))هذا التقسيم الحلولي لليهود إلى يهود يقفون داخل دائرة القداسة، وأغيار يقفون خارجها، ينطوي على تبسيط شديد، فهو يضع اليهودي فوق التاريخ وخارج الزمان، وهذا ما يجعل من اليسير عليه أن يرى كل شيء على أنه مؤامرة موجهة ضده أو على أنه موظف لخدمته. كما أنه يحوِّل الأغيار إلى فكرة أكثر تجريداً من فكرة اليهودي في الأدبيات النازية أو فكرة الزنجي في الأدبيات العنصرية البيضاء. وهي أكثر تجريداً لأنها لا تضم أقلية واحدة أو عدة أقليات، أو حتى عنصراً بشرياً بأكمله، وإنما تضم الآخرين في كل زمان ومكان. وبذا، يصبح كل البشر أشراراً مدنَّسين يستحيل الدخول معهم في علاقة، ويصبح من الضروري إقامة أسوار عالية تفصل بين من هم داخل دائرة القداسة ومن هم خارجها. وقد تعمقت هذه الرؤية نتيجة الوضع الاقتصادي الحضاري لليهود (في المجتمع الإقطاعي الأوربي) كجماعة وظيفية تقف خارج المجتمع في عزلة وتقوم بالأعمال الوضيعة أو المشينة وتتحول إلى مجرد أداة في يد النخبة الحاكمة. ولتعويض النقص الذي تشعر به، فإنها تنظر نظرة استعلاء إلى مجتمع الأغلبية وتجعلهم مباحاً، وتسبغ على نفسها القداسة (وهي قداسة تؤدي بطبيعة الحال إلى مزيد من العزلة اللازمة والضرورية لأداء وظيفتها)) .
|