الأربعاء, 29-يناير-2014
لحج نيوز - عبدالعزيز العرشاني بقلم/ عبدالعزيز العرشاني -
منظر لن أنساه ما حييت ما زلت أتذكره بكل تفاصيله فقد حفر عميقا في نفسي وتلافيف عقلي. كان ذلك اثناء عودتي من محافظة اب الى مدينة صنعاء ومروري بمدينة دمت (يقصدها مرضى الروماتيزم والامراض الجلدية لغرض التداوي لاحتوائها على ينابيع مياه معدنية ساخنة) وكان الوقت ظهرا فنزلت لتناول طعام الغداء في مطعم يشرف على الشارع الرئيسي وبعد الانتهاء من تناول الطعام وغسل يدي خرجت من المطعم لمواصلة سفري؛ وكعادة المطاعم صُفت في الخارج مجموعة من المناضد وحولها رتبت الكراسي, وهناك كان أحد يتناول طعامه متباهياً بأنواعه المختلفة لا تثنيه نظرات أحد ولا تمنعه الرياح المحملة بالغبار, وحوله كانت أكثر من امرأة- من فئة المهمشين أو من يطلق عليهم مجازيا في اليمن الخَدَمْ لعلة سواد اجسامهم واستميحهم عذرا من ذكري للقب- يدُرن حوله ويرمقن طعامه علَّ وعسى تجود نفسه ويرمي لهن ولو بقايا طعام ولكنه لم يأبه لهن وظل يأكل متجاهلاً النظرات وكأن لا أحد حوله وما أن وقف منهياً طعامه وابتعد قليلا حتى هبت النسوة على المائدة يتزاحمن ليجمعن بقايا طعامه؛ إحداهن لم تجد ما تضع فيه بقايا الطعام المختلط الذي تحمله على يدها اليسرى. تلفتت حولها فرأت بالقرب منها على الارض كيساً بلاستيكياً كبيراً قد تلطخ بالوحل بفعل الأمطار فضمت يدها اليسرى الحاملة لبقايا الطعام إلى صدرها منعاً من تبعثره وعلى حذر أحنت قامتها ملتقطة الكيس بيدها اليمنى وسحبته ثم شدته بعد ان وضعت رجلها اليسرى عليه حتى انقطع منه جزء متوسط الطول يصلح برأيها لاستخدامه؛ فرشته على المنضدة ثم وضعت ما جمعت يداها من بقايا الطعام على الكيس البلاستيكي ثم لفته وانطلقت لتطعم صغارها غير أبهة بالوحل والأقذار المختلط ببقايا الطعام.. حارت دمعة في عيني ونكست رأسي من هول المنظر, واحساس العار والخزي يكللني من شعر رأسي حتى اخمص قدمي لقد طعنت آدميتي في مقتل بفعلها هذا, وشعرت ان كل من حولها وانا جزء منهم ليسوا الا بهائم مفترسة تحكمهم قوانين القوة وسيطرت القوي على الضعيف, وكل منهم مشغول بنفسه في البحث عن طريدة.

أليسوا بشراً مثلنا أصلنا ومنشأنا واحد اساسه التراب. أبونا ادم وامنا حواء. أجسادهم مثل أجسادنا. أعضاؤهم الحيوية كأعضائنا. يجري في عروقهم ما يجري في عروقنا. لهم حواس خمس أمثالنا. ألا تكفي المشتركات الحيوية بيننا وبينهم لنصبح أخوة- لهم ما لنا وعليهم ما علينا- ناهيك عن أخوة الإسلام. فلم قوانين الغاب متداولة ومشرعة في عرف المجتمع. لايستطيع أحد أتباعا لتعاليم الدين الحنيف نكرانها أو اختراقها أو الخروج عليها وهدمها, هل عليه أن يبقى ضعيفا من داخله ومستضعفا لدى من حوله. مستضعفاً في طموحه؛ وفي رؤيته؛ وبعد أفقه؛ وفي رزقه. راضياً بالحال السيئ التي هو عليها حتى تجذرت في تفكيره ومنحنيات عقله ثقافته المتطرفة والمنحرفة القائلة أن طموحه مستحيل؛ وتطلعه نحو المستقبل جرم؛ وآدميته عار؛ وأحاسيسه جنون. فاستكان لوضعه ورضخ لقوانين الغاب الوحشية غير المكتوبة واستسلم لأعراف المجتمع الجائرة واصبحت أمامه كحائط صد؛ فهو الصورة العكسية والسلبية للمجتمع. إن فرح المجتمع عليه أن يحزن, وان لبس عليه ان يعرى, وإن شبع عليه أن يجوع, وان روي عليه ان يعطش, وإن نام عليه أن يسهر, وإن ارتاح عليه أن يتعب, وإن صح عليه أن يمرض.. لا يفكر في طعام جيد يأكله, ومنزل كبير يؤويه, وحمام يأخذ فيه خصوصيته, وزوجة يعمل بديلاً عنها, وفي أطفال يسعدهم ويغنيهم عن ذل السؤال؛ يشعرهم بطفولتهم وآدميتهم؛ يذهبون للمدرسة في الصباح, ويحفظون القران ويرددون الاناشيد؛ وفي المساء يجتمعون حول احد والديهم ليذاكر لهم دروسهم. يفرحون بملابس العيد كبقية الأطفال. يعطيهم والديهم النقود لشراء الحلوى, ويتابعون الحلقات الكرتونية ويتحدثون فيما بينهم عنها كبقية الاطفال, ويلعبون مع أمثالهم من الصغار.. بالمجمل يخرجون من سلبية الصورة إلى إيجابيتها ومن الجانب المظلم إلى المنير المشرق.

كلما خرجت من المنزل ورأيت حالهم وحال أطفالهم في منازل الصفيح أو الكرتون في محاولة جادة منهم لبناء مسكن يشبه المنازل رغم انها لاتقيهم الحر ولا القر ولا امطار الصيف؛ وأحسنهم حالا يعيش في دكان مظلم عديم النوافذ؛ حتى تخنقني العبرة واشعر بالهم والضياع؛ وتدور دمعة حائرة في عيني.. أكداس من البشر ينامون ويأكلون ويشربون في غرفة واحدة هي غرفة النوم والمطبخ والحمام وغرفة الجلوس فأطأطئ رأسي ولا أستطيع متابعة النظر اليهم لضعفي وعجزي عن عمل شيء نحوهم. فنحن العاجزون لا هم ونحن الضعفاء لا هم. أرى في عين خيالي نظرة الخضوع والاستسلام. نظرة الذلة والمسكنة وخلفها تختفي نظرات الحقد والحسد نحو الجميع.


رسام كاريكاتير. قاص. كاتب

اليمن. صنعاء

[email protected]
تمت طباعة الخبر في: الخميس, 21-نوفمبر-2024 الساعة: 09:28 م
يمكنك الوصول إلى الصفحة الأصلية عبر الرابط: http://www.lahjnews.net/ar/news-28052.htm