لحج نيوز/كتب:حسن غندور - ثمانون عاماً مرت على اتفاقية الطائف الموقعة بين المملكة العربية و"اليمن المتوكلية"، من هنا تبدأ الحكاية أو بالأحرى الملحمة اليمنية - السعودية المستمرة فصولًا ومرورًا بعام الفين حينما وقع الرئيس اليمني السابق علي عبدالله الصالح اتفاق ترسيم الحدود "النهائية" بين المملكة واليمن، قابضاً ثمن مئة الف كلم مربع من أرض "شرورة ".
هناك من يعتقد أنّ سلخ منطقة شرورة وضمّها الى المملكة هو رغبة سعودية توسعية، هدفها جعل المملكة الدولة العربية الاولى من حيث المساحة بعدما ضمت قبلها في اتفاقية عام 1934 كل من جيزان وعسير، وهناك من اعتقد أنّ السبب يعود لإنشاء منطقة عازلة بعمق 20 كلم تحمي المملكة بها حدودها من القبائل اليمنية ومن تسلل العمالة الغير قانونية الوافدة اليها ومن المهربين لمادة "القات" المخدرة، إلا أنّ حقائق المسح الجيولوجي الذي أجرته كل من اليمن وعمان أثناء ترسيم حدودهما أكدت وجود كميات ضخمة من النفط في تلك المنطقة، وعليه فإنّ اليمن، وبهذا الاحتياط من النفط والموقع الاستراتيجي على البحر الاحمر والمحيط الهندي، ممكن أن يتحول الى منافس حقيقي للمملكة.
ولكن المشكلة أعمق من ذلك بكثير، فاليمن، بتداخل قبائله وعشائره مع المملكة، وذلك الامتداد البيولوجي والقبلي الكبير على مستوى الجغرافيا والديموغرافيا، وخصوصًا من ناحية الجنوب، أي جنوب المملكة، يجعل أي تقدم وازدهار يمني وأية عودة لليمن الى سابق أمجاده التاريخية، الحضارية منها والاقتصادية، تكاد تشبه الغصن الذي تفرع من شجرة ما ونما حتى أصبح أكبر وأغلظ من أصل الشجرة. لذلك، فإنّ المملكة، وعلى مدى عشرات السنين، وخصوصًا بعد انحسار المد الناصري وصولًا الى معاهدة عام 1990، حرصت على التدخل المباشر والعميق في اليمن، لتدخل في كلّ مفاصل الحكم والسياسة والشؤون القبلية والعشائرية مشكلةً أضخم احتلال لبلد من دون استعمال جندي واحد. وقد تجسّد هذا التدخل منذ قامت بدعم رجال القبائل وعلى رأسهم شيخ قبيلة حاشد حينها عبدالله بن حسين الاحمر ودعم "عميلهم" الرئيس اليمني عبد الرحمن الارياني الذي عمل بكل قوة على منع اي تقدم نحو الوحدة بين الجمهورية العربية اليمنية وجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، وبعده الرئيس ابراهيم الحمدي الذي اغتيل عام 1977 وصولًا الى تسلم علي عبدالله الصالح الحكم سنة 1978.
إنّ الدور الذي لعبته المملكة في الداخل اليمني بكل تفاصيله التي تعج بها المراجع والوثائق، الاستخبارية منها والصحفية، تؤكد أنّ هذا الدور كان أشبه، بل تطابق في بعض الأحيان، بأسلوب الكيان الصهيوني الذي سعى ويسعى دائما الى إضعاف دول الجوار والى افتعال الحروب لتدمير مقدراتهم، وما شهدناه من "ربيع برنارد ليفي" ليس إلا استهدافًا لجيوش الطوق وعلى رأسها الجيش السوري والجيش العراقي ومحاولات زج الجيش المصري في حروب قبلية في سيناء.
وبالعودة الى حاضر الواقع اليمني بعد اجتياح "الربيع العربي" لليمن، فقد جاء حساب الحقل "الغربي والسعودي" مختلفاً عن حساب البيدر، فبعد أكثر من سنتين على خلع علي عبدالله الصالح اختطت الاوراق اليمنية وتبدلت موازين القوى الداخلية لتفرز واقعا سياسياً وأمنيًا جديدًا في اليمن، لا يمكن عزله عن المشهد الاقليمي بأيّ شكلٍ عن ارتباطه العضوي بالتجاذبات الحاصلة بين قطبي الصراع في المنطقة من ايران الى السعودية وورائها الغرب.
صحيحٌ أنّ من أراد ثورة لليمن في سياق ما يسمى ثورات الربيع العربي، كان يريدها سلمية وردية في اليمن ودموية تفجيرية في ليبيا وسوريا وتونس وذلك لأسباب تتعلق بالأمن القومي السعودي، والخوف من اشتعال الحرائق في الحدائق الخلفية للمملكة، وهنا تجدر الإشارة والمفارقة الى أنه يكاد لا يوجد بيت واحد في اليمن لا يملك السلاح، وبرغم ذلك بقيت الثورة "سلمية" الى أن بدأ رعاة هذه الثورة يحصدون عكس المرتجى، فالحراك الجنوبي الذي يبحث عن "فك الارتباط" أراد أن يستفيد من الثورة ومن خلع "المخادع" الصالح الذي خدعهم سنة 1990 وقمعهم سنة 2003، ليحقق استقلاله عن شمال اليمن من جهة، والحوثيون من الشمال الذين رأوا في استبعاد صالح وضعف واهتزاز آل الاحمر فرصة ذهبية لتعزيز دورهم ومكانتهم في اللعبة السياسية، قلب المعادلات وخلط الاوراق، ما استدعى تدخلًا "أمنيًا" و"إرهابياً" سعوديًا عبر تحريك أدواتهم المتطرفة في ابين، تلك العصا التي كانوا يستعملونها ضد علي عبدالله الصالح سابقاً، وأيضًا عبر تعزيز الدور السياسي لـ"حلفاء المملكة" في اليمن وعلى رأسهم الرئيس الحالي عبد الهادي منصور وجماعته، مع من تبقى من فلول الجنرالات العسكرية لقبيلة الحاشد أو بالأحرى لجماعة آل الاحمر.
أمام هذا المشهد من الاشتباك الحاصل في اليمن، تحوّلت الساحة اليمنية الى ساحة مواجهة بين مشروعين، يبدو ميزان القوى فيها مرجح للفئة التي تناهض المملكة العربية من جنوب اليمن الباحث عن فك الارتباط الى شماله الحوثي الذي يتمدد بشكل مطّرد وكأنّ لسان حاله يقول للرياض إنّ ما أخذتموه في العراق سنعوّضه في اليمن، الى حراك القبائل التي تسعى لمنع المملكة من قضم الاراضي اليمنية في شرورة والتي على ما يبدو هي قاب قوسين أو أدنى من دخول حرب تحريرية مع المملكة، بعدما منعت الاخيرة من استكمال تشييد الجدار العازل في تلك المناطق.
إنّ أكثر ما تخشاه المملكة هو خسارة الورقة اليمنية، فاليمن "عامود السماء" بالنسبة للخليج عامةً والسعودية خاصة، وأنّ أية خسارة في الهيمنة على اليمن تعني بداية قلاقل عائلية وقبلية قد تضرب عمق النسيج المجتمعي والاقتصادي السعودي، إذا ما نظرنا الى عمق الارتباط بين البلدين وحجم استفادة المملكة من اليمن في كافة المجالات والاصعدة.
لعلّ إقامة احتفالية يوم القدس في صنعاء اليوم لها ما لها من دلالات تؤذن ببداية تغيّر في الخريطة السياسية اليمنية، ولعلّ منصور يعي ذلك جيدًا وهذا ما استدعاه ان يقوم بزيارة مفاجئة وغير متوقعة لعمران، وكأنه يعلن اعترافه بالواقع السياسي الجديد، هو ومن وراؤه في الرياض من الذين يحاولون إعادة تجربة الملك فيصل عبر الترويج بالقيام بتسوية مع قيادات الحراك الجنوبي تقضي بإقالة وزير الدفاع الجنوبي ناصر احمد ومغادرته البلاد مقابل خروج كل من علي عبدالله صالح، وعلي محسن، وحميد الأحمر لبدء مفاوضات فكّ الارتباط برعاية سعودية، وهو ما نفته تلك القيادات اليوم مما شكل ضربة كبرى للرياض ولجهودها المستميتة في استعادة الامساك بأي دورٍ في اليمن قبل فوات الاوان.
لقد دخلت الرياض مرحلة الطلاق الكامل مع اليمن، لا بل مرحلة العداوة التي، إن استعرت، ستهدّ أركان حكام الحجاز من أصولها، لأنّ ما ذاقته المملكة أيام اشتراكية عبد الناصر في ستينات القرن الماضي سيعتبر مزحة مقابل ما قد تعانيه حينما يصبح "الدب الممانع" في الحديقة الخلفية.. لبني وهاب. |