سيف العسلي - - سيف العسلي-
ما أشبه ما يطلق عليه هذه الأيام بالقضية الجنوبية بما أطلق عليه خلال الفتنة التي أصابت المسلمين خلال الخلافة الراشد بقميص عثمان. ان ما يجمع بينهما هو صدق القول الشائع عليهما أي ان كلا منهما كلمة حق أريد بها باطل. فالمطالبة بدم عثمان بعد قتله حق و لكن استخدام قميصه الذي قتل فيه و تلطخ بدمه للمطالبة بحقوق سياسية غير مشروعة و حشد الدعم ضد الخصوم باطل. و كذلك فان المطالبة بإزالة ما لحقق ببعض إخواننا في المحافظات الجنوبية من ظلم خلال مرحلة التشطير و بعد الوحدة حق و لكن الادعاء بأنهم وحدهم المظلومين ان ذلك سيزول كما يدعي البعض من خلال فك الارتباط بين الشطرين او تصحيح مسار الوحدة او إعادة الشراكة السياسية بين الحزب الاشتراكي و المؤتمر الشعبي العام باطل.
و حتى لا ينخدع البعض بذلك فانه لا بد من الاتعاظ من الدروس المستفادة من فتنة المسلمين و من محاولات الانفصال التي جرت في الماضي في اليمن. لقد أوضحت الدروس المستفادة من فتنة المسلمين بان تحقيق العدل لا يبرر ارتكاب الظلم و ان عدم قول كلمة الحق في الوقت المناسب لا يؤدي إلا الى ارتكاب مزيد من الظلم و ان ترك القلة تفعل ما تشاء و تثير الفتن كما تشاء لا تضر بنفسها فقط. فلا تنجو الأغلبية من الاصطلاء بنار الفتن أبدا اذا هي لم تأخذ بأيدي مثيريها. فالوطن مثل السفينة التي اقتسمها ركابها فركب بعضهم في أسفلها و ركب البعض في أعلاها. فكان من بسافلها يتحرجون من إيذاء من بعاليها خلال جلب الماء فقرروا إحداث خرق في الأسفل لتجنب ذلك. لكن ذلك الفعل سيعمل على إغراق السفينة مما سيتسبب بغرق الجميع. و في هذه الحالة فان ما يلحق بأذى بمن هم في أعلاها لا يقارن أذاه بما سيلحق بجميع ركاب السفينة اذا هم فرحوا برفع اذا الماء عنهم و سمحوا لهم بخرقها.
و بالمثل فان التعامل مع ما يسمى بالقضية الجنوبية من خلال استخدام رفع الأذى عنهم لتبرير الانفصال او لايذاء النظام او لتحقيق مكاسب سياسية او مالية سيؤدي بدون ريب الى إلحاق الأذى بجميع ابناء اليمن بمن فيهم ابناء المحافظات الجنوبية و الشرقية. صحيح انه يجب العمل على رفع هذا الظلم و لكن الصحيح انه لا ينبغي السماح باستخدام الظلم الذي وقع ببعض إخواننا في الجنوب كمبرر لارتكاب ظلم اكبر يعم كل ابناء اليمن في الشمال و الجنوب. ان ذلك لن يؤدي كما يتوهم البعض الى وصولهم الى سلطة (الإصلاح) او الى زيادة ابتزازهم للنظام القائم (الانتهازيين) او الى عودتهم الى السلطة (الاشتراكي). و كذلك فعلى الجميع ان يدرك ان التغاضي عن الظلم (الفساد) من اجل الحفاظ على الوحدة لن يؤدي الى ألاستمرارهم باحتكار السلطة (المؤتمر). وأيضا فان على الجميع ان يدرك ان السكوت عن بواعث الفتنة لن ينجيهم من أثارها الضارة. سوف لن يترتب عن ذلك كله سوى هدم المعبد على الجميع.
ان ربط الوحدة بما يعانيه البعض من ظلم باطل. فالحق ان لا علاقة للوحدة بالظلم كما انه لا علاقة لدم عثمان في المعارك الدامية التي خاضها المسلمون من بعده. لقد كان بمقدورهم منع قتل عثمان اذا وقفوا مع الحق أيا كان صاحبه. و في هذه الحالة فانهم كانوا سيجنبون أنفسهم و الأجيال التي تلتهم الى يومنا هذا مما ترتب على هذه الفتنة من مآسي.
و كذلك فانه بإمكان اليمنيين اليوم تجنب فتنة الانفصال و التشرذم او الفساد إذا وقفوا مع أصحاب الحق أيا كانوا. ان ذلك يتطلب المطالبة بإزالة إي مظالم تقع على إي يمني في أي منطقة كانت ويعني كذلك الوقوف ضد من يثير الفتنة من خلال نشر ثقافة الكراهية و التشرذم أيا كان موقعه و محاسبة الفاسدين ايا كانت مواقعهم.
و ما لم نفعل ذلك فإنه سيحل بنا ما حل بالمسلمين من قبل. لقد ترتب على تغاضي بعض الأمة عن مقدمات الفتنة و على سعي البعض الأخر إلى استغلالها لتحقيق مصالح خاصة و إلى عدم اكتراث الغالبية العظمى من الأمة بما يجري الى اضطراب أحوال الأمة الإسلامية في أواخر ولاية الخليفة الثالث عثمان بن عفان رضي الله عنه اضطرابا كبيرا.
لقد كانت مقدمات الفتنة بادية للعيان قبل وقت كبير من وقوعها و مع ذلك لم يحرك احد ساكنا. و نتيجة لذلك فقد استغل دعاة الفتنة موسم الحج فخرج جماعة من مصر يقدر عددهم ما بين خمس مائة و ألف شخص و مثلهم من البصرة و مثلهم من الكوفة. و كان أهل مصر يشتهون عليا و أهل البصرة يشتهون طلحة و أهل الكوفة يشتهون الزبير.
وقبل دخولهم المدينة أرسلوا مندوبين لاستطلاع موقف أهلها منهم. فقابلوا كلا من أزواج النبي صلى الله عليه و سلم و عليا و طلحة و الزبير و أعلموهم بان هدف الخارجين هو استعفاء عثمان رضي الله عنه من بعض ولاتهم. و على الرغم من عدم موافقتهم على أهدافهم إلا أنهم لم يقفوا ضدهم و لم يتبنوا مطالبهم. فعاد المندوبون إلى قومهم و اخبروهم بما سمعوه. و يبدوا ان تراخي أهل المدينة عن مقاومتهم قد أغراهم بدخول المدينة. وبعد ان تم ذلك لم يعترض طريقهم احد ممن كان في المدينة. و اتجه الموالون لعلي اليه ليبايعوه و الموالون للزبير اليه ليبايعوه و الموالون لطلحة اليه لبايعوه. و بالرغم من عدم قبولهم البيعة من هؤلاء فأنهم لم يمنعوهم من محاصرة عثمان رضي الله عنه و اكتفوا فقط بإرسال أولادهم لحراسته. و لزم أهل المدينة بيوتهم.
لم يكتفوا بذلك ففي البداية سمحوا لعثمان رضي الله عنه بالخروج من بيته والى المسجد و الصلاة بالناس و لكن ما لبثوا ان منعوه من ذلك و نصبوا احدهم يصلي بالمسجد بدلا منه. و لم يناهض ذلك أهل المدينة. وبعد ذلك فرضوا على الخليفة حصارا شديدا استمر لأربعين يوما. و على الرغم من ان عثمان رضي الله عنه قد كتب الى أهل الأمصار يستمدهم العون لكنه لم يأت قط..
و نتيجة لذلك فقد تشجع دعاة الفتنة و رفعوا سقف مطالبهم من المطالبة بعزل بعض ولاتهم الى المطالب بخلع الخليفة نفسه. مع ذلك رفض طلبهم هذا قائلا لست خالعا قميصا كسانيه الله. فردوا على ذلك باقتحام منزل الخليفة و قتله و دفنه بدون تشيع يليق به.
و بعد مضي خمسة أيام من مقتل عثمان رضي الله عنه و لم يتصدى لهم احد قاموا بمبايعة علي رضي الله عنه. و لكنهم اكتشفوا ان عثمان لم يكن السبب فيما يشكون منه و من ثم فان قتله كان ظلما اكبر مما كانوا يطالبون بإزالته من مظالم. و لذلك فان جريمتهم هذه لم تعمل على تجاوز الأزمة التي كانوا يعانون منها. بل انه يمكن القول ان تصرفهم على هذا النحو كان يمثل انتقالها الى مرحلة اكثر خطورة. فلم يعد التعامل معها يتطلب التخلص من بعض الولاة و لكنه يتطلب معالجة ازمة سياسية و اقتصادية تعصف بكل المسلمين.
و مع ذلك فقد كان الاعتراف بذلك و السعي للتعامل معه بما يتناسب معه كان يمكن ان تتم معالجة الأزمة بتكلفة تقل عما كلفته لاحقا. و لسوء الحظ فان كل الأطراف تجاهلت ذلك وركزت على جزئيات لا تمثل حقيقة الأزمة و لا عمقها. و نتيجة لذلك فقد تحول عثمان و قميصه مشجب يعلق عليه كل الأطراف مشاكلهم و مبرر يستخدمه كل طامح لتحقيق طموحه.
فبسبب تخلى كل من طلحة و الزبير عن بيعتهما السابقة لعلي رضي الله عنه ليس بسبب المطالبة بدم عثمان ولكن بسبب شعوريهما من أنهما لن يحصلا على ما كانا يطمحان له .وعلى الرغم من ذلك فقد استخدما قميص عثمان رضي الله عنه لحشد الأنصار لمقاتلة علي رضي الله عنه. و قد استخدم معاوية رضي الله عنه قميص عثمان لمنع الخليفة المعين من قبل علي من الوصول إلى الشام. و قد برر معاوية رضي الله عنه عدم مبايعته لعلي بعدم شرعية بيعته لأنه لم يقتص لعثمان رضي الله عنه. و قد برر علي رضي الله عنه عدم نصرته لعثمان لأنه لم يطلب منه ذلك. لكنه لو قاوم دخل دعوة الفتنة المدينة بالقوة لما حدث ما حدث و لو منعهم من محاصرته لم حدث ما حدث و لو منعهم من الصلاة من المسجد لما حدث ما حدث و لو لم يقبل بيعتهم لما حدث ما حدث.
بل انه لو تم معالجة الأسباب التي دفعت هؤلاء للخروج لما خرج هؤلاء على الخليفة على هذا النحو. لكن تقاعس الأمة عن ذلك و عن نصرة عثمان رضي الله عنه قد سهل لهم قتله على هذا النحو. و بذلك فقد استطاعت القلة ان تورط الأمة كلها في ازمة طاحنة. لأنه إذا تعاملت الغالبية مع هذه المطالب بالجدية المطلوبة لكانت قادرة على ردع هؤلاء الخارجين و لو تتطلب الامر استخدام السلاح ضدهم و لكانت قادرة على إقناع الخليفة بتلبية مطالبهم العادلة. و في كلا الحالتين لما كان حدث ما حدث و لما كان ممكنا استخدام قميص عثمان من مناصريه و معارضيه لتبرير تصرفاتهم المتناقضة و غير المفيدة.
و نتيجة لذلك فان كل محاولة معالجة هذه الأزمة باءت بالفشل مما ترتب على ذلك إراقة دماء المسلمين بأيدي المسلمين و بالتالي تفرق كلمتهم. و نتيجة لذلك فقد كلفت هذه الأزمة الأمة الخلافة الراشدة برمتها و مكنت البعض من المجاهرة بالملك العضوض الذي لا زالت الأمة تعاني من نتائجه إلى اليوم.
و نفس الأمر ربما ينطبق على اليمن. فالتساهل في ردع دعاة الفتنة إما من خلال تلبية مطالبهم المشروعة و اما من خلال الأخذ على أيديهم و منعهم من نشر الكراهية و التفرقة بين ابناء الوطن الواحد. و قبل ذلك فان علينا ان نقتنع أولا بان الانفصال ليس الحل بل انه يمثل ظلما يفوق كل المظالم التي تستخدم لتبريره.
فمحاولات الانفصال في الماضي لم تعمل على حل أي مظالم تم التذرع بها لتحقيقه. فعلى العكس من ذلك فقد ترتب على محاولة الانفصال ماسي كبيرة شملت كل اليمن و بدون استثناء. ففي عام 1629 حاولت بعض المناطق في المحافظات الجنوبية و الشرقية (يافع العليا و يافع السفلى و العوالق و خرفة حالمين) استغلال خروج الثمانين من اليمن للانفصال عن اليمن الأم. و لم تحقق هذه المحاولة إلا نجاحا جزئيا في عام 1731 و بعد خوض حروب ضارية مع دولة الأمامة في الشمال. و بعد توقف الحروب مع الشمال خاضت المناطق الجنوبية العديد من الحروب الداخلية مثل حروب (السلطان الرصاص مع السلطان قحطان و آبين مع يافع و سلطان حضرموت المدعوم من الإمام في الشمال مع منافسه المدعوم من يافع و لحج مع عدن). و لم تستقر الأوضاع في المحافظات الجنوبية و الشرقية المنفصلة عن اليمن الأم إلا بعد احتلال عدن من قبل بريطانيا في عام 1839.
و من الملاحظ ان هذا الاستقرار كان هشا للغاية. فقد اعتمد على المعاهدات التي فرضتها بريطانيا على هذه المناطق. فقد لجأت بريطانيا الى هذه الطريقة مباشرة بعد احتلالها لمدينة عدن بهدف فرض سيطرتها على هذه المناطق. ففي عام 1839 تم عقد معاهدة للصداقة و السلام بين بريطانيا وسلطنة لحج. و في عام 1840 عقدت بريطانيا معاهدة مع شيخ العقارب. و في عام 1871 عقدت بريطانيا معاهدة مع بعض مشايخ الصبيحة و في عام 1886 مع سلطان سقطرة و في عام 1888 مع سلطان بير علي و شيخ حورة و سلطان القعيطي و سلطان العوالق السفلى و شيخ العقارب و سلطان الفضلي. و في عام 1889 عقدت بريطانيا معاهدات مع شيخ العاطفي و شيخ البرهمي. و في عام 1895 عقدت بريطانيا معاهدة مع شيخ العلوي. و في عام 1897 عقد معاهدة مع شيخ المخدومي. و في عام 1902 عقدت بريطانيا معاهدة مع كل من شيخ عرقة و شيخ حورة. و في عام 1903 عقدت بريطانيا معاهدات مع كل من شيخ ضبي و نقيب الموسطة و شيخ المفلحي و سلطان يافع العليا و شيخ العوالق العليا و شيخ الصالدة و شريف بيحان. و في عام 1904 عقدت بريطانيا معاهدات مع كل وسلطان العوالق العليا و أمير الضالع. و في عام 1905 عقدت بريطانيا معاهدة مع سلطان بالحاف. و في عام 1912 عقدت بريطانيا معاهدات مع كل من سلطان العواذل و شيخ دثينة. و في عام 1914 عقدت بريطانيا معاهدات مع كل شيخ العلوي و سلطان الحواشب و شيخ قطيب. و في عام 1915 عقد بريطانيا معاهدة مع سلطان الكثيري.
و هنا ينبغي ان نلاحظ طول الفترة التي استغرقتها هذه المعاهدات و التعديلات التي وقعت عليها تدل على صعوبة توحد هذه المناطق تحت اي هوية غير الهوية اليمنية. ان ذلك يدل و بدون ادني شك بأنه لا يوجد هوية واحدة للمناطق الجنوبية و الشرقية سوى الهوية اليمنية. و في حال تجاهلها فان هذه المناطق تتشظا بدون حدود. و الدليل على ذلك عدم عقد معاهدة واحدة مع كل هذه المناطق. بل انه وجدت عدد من المعاهدات في إطار المنقطة الواحدة مثل الصبيحة او العوالق وحضرموت وغيرها. و مما يؤكد ذلك انه و حتى بعد هذه المعاهدات فان الصراع على السلطة و النفوذ بين هذه المناطق و بعضها البعض و في داخل كل منطقة لم يتوقف.
و لم تنجح هذه المعاهدات في خلق كيان موحد حتى في ظل اقل ما يمكن من روابط الوحدة. ففي عام 1952 حاولت بريطانيا توحيد هذه المشيخات و السلطانات و الإمارات في كيان واحد أطلقت عليه الاتحاد الفيدرالي في الجنوب. و لكن هذه المحاولة فشلت فشلا ذريعا على الرغم من الجهود الجبارة التي بذلتها بريطانيا بواسطة مندوبها السامي في عدن. و تم إعادة المحاولة من جديد في عام 1954 و لكن لم يكن مصير هذه المحاولة بأفضل من مصير سابقتها. و تم إعادة المحاولة للمرة الثالثة في عام 1956 و لكنها فشلت ايضا.
و في عام 1959 تقدمت بريطانيا بمشروع جديد تحت اسم اتحاد إمارات الجنوب العربي و لكن هذا المشروع لم يفشل فحسب و لكنه مهد لمقاومة الاحتلال. و مما يشير الاندهاش ان مقاومة الاستعمار لم تتوحد إلا تحت أسماء تحمل الهوية اليمنية. فعلى الرغم من تكوين المؤتمر الوطني في عام 1956 و الاتحاد الشعبي في عام 1957 و الاتحاد القومي في عام 1959 و التجمع القومي في عام 1960 و الهيئات الوطنية الشعبية في عام 1961 فانها فشلت في قيادة أي مقاومة تذكر للمحتل و لم تستطيع ان تتوحد على الرغم من الجهود الكبيرة التي بذلت في سبيل ذلك.
و مع ذلك فقد انطلقت أول شرارة للثورة في 14 أكتوبر عام63 19 من جبال ردفان الأبية. و قد شارك في ذلك كل اليمنيين. و في نفس العام تم الإعلان عن تشكيل الجبهة القومية لتحرير اليمني في صنعاء. و في عام 1966 تم الإعلان عن تشكيل جبهة التحرير في صنعاء ايضا. و مما لا شك فيه ان مقاومة الاحتلال البريطاني قد شارك فيه العديد من اليمنيين غير المنتمين لهذين التنظيمين من العمال و الكتاب و الحرفين و الموظفين و التجار. و ما كان له ان ينجح لولا تركيزه على الهوية اليمنية بدلا من الهويات المناطقية او الهوية الجنوبية المصطنعة.
و من المؤكد ان الروابط بين مختلف مناطق اليمن في الشمال و الجنوب ظلت قويا حتى في حال التشرذم. فقد كان الإنسان اليمني يتحرك بين مناطق الشمال و مناطق الجنوب و الشرق بدون جوازات سفر و بحرية كاملة. و لم تنجح محاولة الاستعمار البريطاني عرقلة ذلك من خلال إطلاق ما سمي بالجنسية العدنية. بل ان هذه المحاولة هي التي سرعت في مقاومة الاستعمار البريطاني. و نتيجة لهذه الحرية فإننا نجد العلاقات الأسرية القوية بين العديد من الأسر اليمنية المنتشرة في كل مناطق اليمن مثل أسرة الاهدل و السقاف و النهاري و الحضرمي و الحداد و غيرها.
لم يقتصر الامر على هذه العلاقات الاجتماعية بل امتد الى المجالات الاقتصادية و السياسية. ففيما يخص المجالات الاقتصادية فقد مثلت عدن الرئة الاقتصادية لكل اليمن. فقد كانت البوابة الاقتصادية لليمن كله. فمنها كان يتم استيراد معظم ما تحتاج اليمن من سلع و منها كان يتم تصدير ما تنتجه اليمن. و في نفس الوقت فقد كانت تمثل المركز المالي لليمن كله. و كانت عدن بوابة اليمن بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى فمنها كان يتواصل اليمن مع العالم الخارجي. فمعظم اليمنيين كانوا يستخدمونها كمعبر لهم. و كان من يريد ان يزور اليمن لا بد له من ان يعبر إليها من عدن.
و فيما يخص المجالات السياسية فقد اتخذ العديد من ابناء اليمن من عدن مقرا لهم و خصوصا الذين كانوا يعارضون الحكم الأمامي في الشمال. و حتى في حال التشرذم فقد كان يلجئ اليمنيون المطرودون من مناطقهم الى المناطق الاخرى و يعاملون كمواطني أصلين. و بشكل عام فقد كانت التطورات السياسية التي تحدث في أي منطقة في اليمن شماله و جنوبه تأثر على كل مناطقه مهما كانت بعيدة او تعتقد أنها غير معنية بذلك.
فاحتلال اليمن من قبل الدولة العثمانية لم يقتصر فقط على المحافظات الشمالية فقط بل امتد ليشمل المحافظات الجنوبية. فاحتلال بريطانيا للمحافظات الجنوبية لم يقتصر عليها بل امتد ليشمل المحافظات الشمالية مثل مينا الحديدة و جزيرة كمران و غيرها من الجزر. و قامت بريطانيا بقصف العديد من المدن و القرى في المحافظات الشمالية في أوقات مختلفة. و بالمثل فان من يحكم اليمن الشمالي يحاول باستمرار مد نفوذه الى المحافظات الجنوبية و الشرقية. و عندما كان تحدث انتفاضة او ثورة في منطقة من اليمن فلا تقتصر المشاركة فيها على ابناء هذه المناطق بل يشاركه ابناء المناطق الاخرى. و ما ثورة الفقيه سيعد على الإمام إلا خير شاهد على ذلك.
و قد استمرت هذه الروابط حتى بعد انسحاب بريطانيا من عدن و توحيد جميع مناطق المحافظات الجنوبية تحت إطار سياسي واحد. و على الرغم عن إعلان هذا الكيان دولة مستقلة إلا انه لم يتنكر للهوية اليمنية لهذه الدولة.فقد أطلق على هذه الدولة اسم جمهورية اليمن الجنوبية. و على الرغم من هذه التسمية فان العديد من أعضاء الجبهة القومية الشماليين و الجنوبيين لم يكونوا راضين عن هذه التسمية الى درجة قيامهم بانقلاب في عام 1969 و تحويلهم اسم الدولة الى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
و كما هو معروف فان الجبهة القومية هي التي انفردت في السلطة في هذه الدولة الجديدة. و لقد ترتب على ذلك فرار أعضاء جبهة التحرير المنافسة الى الشمال. و في نفس الوقت فان الجبهة القومية لم تكن شطرية بل كان لها أعضاء من كل اليمن.
و قد تجلى هذا الترابط بشكله الايجابي و السلبي خلال مرحلة ما بعد استقلال و قبل الوحدة. فمن ناحية فان العديد من ابناء المحافظات الجنوبية و الشرقية شاركوا في الدفاع عن صنعاء خلال حرب السبعين يوما. و في نفس الوقت فقد كان لأنصار الجبهة القومية في شمال دور كبير في ما أطلق عليه إحداث أغسطس 1970 عندما حالوا الاستيلاء على السلطة في الشمال و قد كان لأنصار جبهة التحرير الجنوبيين دور بارز في إفشال هذا الانقلاب. و على الرغم من فشل ذلك فقد عملت حكومة الجنوب على تسليح و تدريب و تمويل المعارضين في الشمال مما تسبب في القيام بالعديد من الاغتيالات السياسية نالت بعض أعضاء المجلس الجمهوري في الشمال أعلا هيئة سياسية فيه.
و لم يتوقف الامر عند هذا الحد فقد خاض الشطران حربا حدودية في عام 1972. و لم تتوقف هذه الحرب إلا بعد ان تم الاتفاق على إعادة الوحدة بين الشطرين و التي وقعت في طرابلس الغرب. و على الرغم من ان لجان الوحدة قد تباطأت في انجاز المهام المطلوبة منها فان الحنين الى الوحدة لم يضعف.فقد ترتب على سعي الشطرين لتحقيق الوحدة كل حسب تصوراته و شروطه الى اغتيال ثلاثة رؤساء خلال فترة تقل عن السنة.
فقد تم اغتيال الرئيس الحمدي في 11 من أكتوبر عام 1977 و في 24 يوليو عام 1978 تم اغتيال الرئيس احمد الغشمي و بعد ذلك يومين فقط تم اعدام الرئيس سالم ربيع علي. و لا شك انه كانت هناك علاقة قوية بين اغتيال هؤلاء و بين مساعي تحقيق الوحدة. و لا شك ان هذه العلاقة تبين مدى تأثر الأوضاع السياسية في ربوع اليمن بما قد يجري من تطورات في أي جزء من أجزائه. و على هذا الأساس فان الانفصال لا يمكن ان يؤدي الى استقرار أي جزء من أجزاء اليمن.
و الدليل على ذلك ان هذه الأحداث لم تؤدي الى استقرار الأوضاع في الشطرين. فقد قامت حرب بينهما في مارس من عام 1979 أي بعد وقت قصير جدا من أحداث الاغتيالات السياسية سالفة الذكر. و على الرغم من التوصل الى اتفاق وقف إطلاق النار و عودة القوات المتقاتلة الى مواقعها السابقة فان ذلك كان مشروطا بمواصلة الجهود لإعادة الوحدة. و قد تمكنت الوساطات العربية من جمع رئيسي الشطرين في الكويت و اتفاقهما على إعادة الوحدة خلال مدة أقصاها أربعة أشهر فان شيئا من ذلك لم يحدث.
و بدلا عن ذلك فقد عملت الحكومة في الجنوب على إشعال صراع مسلحة بين الحكومة في الشمال و أنصار حكومة الجنوب فيما أطلق عليه الجبهة الوطنية في الجنوب و أعمال التخريب في الشمال. و على الرغم من تحسن العلاقة بين الشطرين بعد إزاحة الرئيس عبد الفتاح اسما سيل من السلطة و حلول علي ناصر محمد محله فان نشاطات الجبهة الوطنية في الشمال لم تتوقف إلا بعد خوض الجانبين صراعا مريرا.
و على الرغم من تحسن العلاقة بين الشطرين بعد الاتفاق الذي تم بين السلطة في الشمال و الجبهة الوطنية في عام 1982 إلا ان هذه العلاقات ما لبثت ان عادت الى التوتر من جديد بعد إحداث يناير 1986 في الشطر الجنوبي. فقد اثبت هذه الأحداث ان العلاقات المناطقية لا زالت لها سطوة كبرى على الرغم من الشعارات الثورية الأممية و التحديثية. فقد تقاتلت الأجنحة المتصارعة داخل الحزب الاشتراكي على السلطة و لكن هذا التصارع اخذ جانبا مناطقيا اكثر منه جوانب سياسية او ايدولوجية. و قد انتهى هذا الصراع بعد ان احدث دمارا كبير في البنية التحتية و خسائره كبيرة في الأرواح و عدد كبير في المعتقلات. و الأخطر من ذلك كله فقد انتهى بحدوث شرخ نفسي على أساس مناطقي. و نتيجة لذلك فقد فرت إعداد كبيرة من ابناء بعض المناطق الجنوبية الى المحافظات الشمالية.
و ينبغي ان نلاحظ هنا ان هذه الأعداد لم تلق استقبالا او قبولا من أية دولة مجاورة مثل إثيوبية او دول الخليج. و لذلك فقد كان ملجئها الوحيد هو الشطر الشمالي من الوطن. و لا شك ان ذلك لم يكن كرما من السلطات في هذه المحافظات و إنما دليلا على كون الشطرين شعب واحد لا يمكن ان تفرق بينه الخلافات السياسية او الايدولوجيا المتناحرة.
و على هذا الأساس فان وحدة اليمن في عام 1990 لم تكن منحة من أي شخص و لا عملا من أي حزب بل كانت نتيجة عن ظروف موضوعية حاولت العديد من الأطراف الالتفاف عليها منذ الاستقلال. في هذا الوقت بالذات انهزمت المحاولات الإلتوائية و انتصرت الظروف الموضوعية.
ان محاولة البعض إحياء هذه المحاولات الالتوائية من جديد سوف لن تنجح لان الظروف الموضوعية في الوقت الحاضر قد أصبحت اقوي مما كانت عليه في عام 1990 او حتى في عام 1994. فالذي حقق الوحدة هو عدم قدرة الأنظمة الشطرية السابقة على البقاء و هو الامر الذي سيعمل على حمايتها. فلن تكون هناك أية فرصة نجاح لأي محاولة تشطيرية من أي نوع كان.
و اذا كان الامر على هذا النحو فان من يحاول ان يعيد عقارب الساعة الى الوراء سيفشل و سيعمل فقط على الأساة الى نفسه و الى وطنه. و من ثم فانه لا خوف من ذلك. و في نفس الوقت فان من يحاول ان يبرر فشله في إقامة الدولة العادلة بالعقبات التي لا زالت تفق في طريق الوحدة عليه ان يدرك ان لا احد يصدق ذلك.
ان على الجميع ان يتجهوا الى بناء الدولة العادلة. و من اجل ذلك فانه لا بد من التخلي عن أحلام الانفصال و أحلام المركزية. لا بد ان يرتكز بناء الدولة العادلة في اليمن على محاربة التشرذم و المركزية. فاليمن لا يمكن ان تتجزأ من جديد و في نفس الوقت فانه لا يمكن المحافظة على المركزية الحادة الحالية. ذلك هي كلمة الحق التي ينبغي على كل اليمنيين ان يقولها و ان يعملوا على تحقيقها مهما تطلب ذلك من تضحيات. أما التهرب من ذلك سواء الى الانفصال او الى مزيد من المركزية هو دعوى الباطل التي ينبغي على جميع اليمنيين التصدي لها مهما كانت المغريات.
|