لحج نيوز/تحليل-:سامي الشرعبي - عقود من المؤامرات والصدامات التي أثقلت كاهل اليمن، شماله بجنوبه، شرقه بغربه، وسطه بأطرافه، هي التي قادت الرئيس صالح منذ بداية حكمه إلى حلم بناء جيش قوي- كأساس لكيان دولة قوية لا تحمي سيادته وحدوده فحسب، بل وتحمي الشعب من بعضه، لتؤمّن استقرار الجميع.. غير ان الوصول لهذا الجيش القوي لن يتحقق مالم يكن مؤهلا تأهيلا عاليا ومواكبا للعصر، ومستوعبا لمسئوليته الوطنية والتزاماته القومية والدولية- كأحد أهم أهداف الثورة.. لذا ظلت مهمة بنائه وتأهيله وضرورة تحديثه في رأس اولويات الرئيس واهتماماته.
زاد من أهمية هذا الطموح لعصرنة القوة ظهور توجه ضاغط من مجتمع دولي واقليمي وجد نفسه أمام تحديات جديدة متلاحقة برزت على السطح لتشكل عبئاً ثقيلاً على اليمن والمنطقة، بل ومصدر تهديد للأمن الاقليمي والعالمي، وفي مقدمتها طموح الغول الايراني- للتوسع في المنطقة- لتغطية فراغ القوة القومية المحورية لمصر.. ثم تضخم خطر القاعدة عقب الحقبة الافغانية-السوفيتية الشهيرة.. واخيرا القرصنة في المياه الاقليمية بعد انهيار الدولة الصومالية، مخاطر دولية عديدة تتمركز جميعها حول أهم ممرات الملاحة العالمية "اليمن".
إزاء هذه التحديات المتلاحقة وجد الرئيس نفسه أمام ضغط جارف يضعه بين خيارين، إما أن يكون لديه جيش عصري يواكب الحداثة العسكرية ويستوعب المخاطر ويكون بحجم التحديات، أو أن يظل لديه (عُكفة)- جيش تقليدي متخلف- لإرضاء التيار الراديكالي المهيمن.
غير ان القوة التي يتمتع بها تيار المحاربين القدامى- وعلى رأسهم جنرال "الفرقة" الأطول عمرا في الجيش، ظلت حجر عثرة أمام أية نقلة نوعية للمؤسسة العسكرية طيلة العهود السابقة.. مصدر خطره انه تورط في علاقات مشبوهة وتحالفات خفية لم تقلق النظام بقدر ماأثارت شكوك المجتمع الدولي وأحرجت اليمن بشكل لم يعد خافيا على أحد.. فكان على الرئيس أن يختار أحد قرارين، إما الزج بالبلد في مواجهة لا تحمد عواقبها- للتخلص من القوة الشائخة في الجيش، وإما أن يعصرن الجيش بهدوء- بعيداً عن حساسيات الحرس القديم.. غير أن خصلة التسامح تغلبت على التصادم- والاحتواء على التخلي.. فتم بناء القوة الجديدة بصمت دون صدام مع أحد.
لقد أمضى علي محسن عشرات السنين في هرم الفرقة وامتلك أوسع الصلاحيات كثاني رأس بعد رأس الدولة مباشرة.. لم تكن تنقصه الامكانيات مطلقا ليتطور ويتغير- باعتبار التغيير سنة الحياة.. لكن انشغاله بحماية وجوده وخلود الهيمنة، وانهماكه لبناء التحالفات المقلقة، أنساه أهم ما تحتاجه المؤسسة العسكرية في أي بلد.. لقد غفل مهمة التأهيل والعصرنة، ونسي انه يقود فرقة عتيقة- منحته القوة- ومنحها الهزالة والصدأ.
هذه المقدمة هي التي فرضت استحداث الحرس والقوات الخاصة بوحداتها المختلفة بشكل أساسي، ومعها تحديث القوات الجوية وخفر السواحل، وتحديث قوات الامن المركزي، والامن العام.. الخ- كضرورة ملحة لا مفر منها بعد أن تأكدت حساسية التعامل مع الحرس القديم- نتيجة انشغاله بتكوين تحالفات مريبة، ووجود محاذير خارجية انحازت للدم الجديد- لخلو ملفاته من الشبهات، وتفرغه للمواكبة المنفتحة، وحماس الشباب الذي لا يمتلكه الجنرال.
من هنا بدأت حساسية الجنرال تجاه فكرة المنظومة الجديدة من أساسها، لا لشيء إلا لأنه غاب عن تفاصيلها واستُبعِد منها، بل وظل في غفلة من مواكبة الحداثة، ومنشغلا عن استيعاب المتغيرات من حوله، حتى صحا على اهتمام حكومي لامحدود بالقوة التحديثية الجديدة، استثاره الدعم الدولي غير المسبوق لها، واستفزه أكثر أن يتم إسنادها لدماء جديدة موثوقة ومنفتحة على العصر، بل وزاد من غضبه أن تعمل باستقلالية تامة بعيداً عن هيمنته المزمنة لترتبط بالقائد الأعلى مباشرة دون حواجز تقليدية تعيق مهمة التحديث الشامل.. ساعدها كل ذلك الدعم والاستقلالية بجانب الادارة الحديثة على أن تصبح القوة الضاربة في البلد.. ومن غير المعتاد أن تخرج قوة استراتيجية كهذه من يد الاتجاه "المعاكس".
من هنا يمكن فهم مبررات الحملة الشرسة التي تتعرض لها قوات الحرس والوحدات الخاصة- ففي ظاهرها قد تستهدف قائدها "احمد علي" لشخصه، أو لكونه نجل الرئيس، لكنها في باطنها انتقام واضح من منظومة التطوير وفكرة التحديث لأنها خرجت من يد الجنرال العتيق- بل وتفوقت في زمن قياسي، قوة ونوعية، تأهيلاً وعتاداً وأهمية وإدارة.. وهنا الحساسية.
السبب في أساسه مرتبط بعقدة صراع الاجيال.. فشعور الجنرال العجوز بقرب أفول نجمه ونهاية حقبة الراديكال- أثار نقمته، وجره للدفاع عن مجد يوشك أن ينقضي، لذا قرر ركوب موجة الفوضى الغير خلاقة- وموضة التونسة- للانتقام من تفوق الدماء الجديدة وإزاحتها من طريقه لتجديد بقائه، كمن يريد أن يسرق زمنه وزمن غيره!
لهذا لا يجد اليوم أي حرج من إظهار حساسيته الانتقامية ضد قوات الحرس والهرولة وراء الحملة التضليلية لقوى الانقلاب، وتحالف الأسلمة والارهاب.. وبهدف استعداء الناس على القوة العصرية استخدم كل ما أوتي من دهاء ومغريات وفتاوى وشعوذة وآلة إعلامية وضخامة مالية لاستمالة منتسبي الحرس والتشويش على الدور المناط بهم، وإثارة استفزازهم لجرهم إلى فخ الدماء مع أبناء الوطن ورفاق السلاح الذين يجمعهم بالمؤسسة الجديدة حلم بناء جيش قوي يحمي وطنه وشعبه من أطماع الخارج وصراع الداخل.
لذا تم اختلاق بؤر التوتر في أكثر من جبهة يتواجد فيها الحرس، استجدت هذه البؤر بعد أن لوحظ تعثر الثورة المخدوعة التي راوحت مكانها شهوراً وتصارعت منصاتها حتى غدت مثار سخرية العالم، ولأنها لم تتحلحل ولم يسقط النظام ولم يتضح الدعم الخارجي حاول تيار الجنرال تبديد السكون وتحريك المياه الراكدة بحثا عما يحفظ ماء الوجه ليصنع انتصارا في محاور أخرى تستنزف الحرس.. فتواصل مسلسل الاستنزاف والتشويه، ليتهموا الحرس بقطع الكهرباء والمياه، والتقطع لناقلات البترول والغاز، بحجة ان الرئيس يعاقب الشعب "الثائر"، ولو كان صحيحا لخرجت الاغلبية الصامتة عن صمتها ولثار انصار الرئيس ضد النظام، وهل يحرض النظام شعبه ضده في ظروف كهذه؟
أيضا اتهام الحرس بتعمد إخلاء الساحة في ابين ولحج لعناصر القاعدة- رغم ان الجيش والأمن يُقتلون هناك بالعشرات- بينما الجنرال والقبائل والمشترك يكتفون بالشماتة ويثيرون سخرية العالم.. ثم اتهام الحرس بالتحرش بساحات صنعاء وتعز- رغم ان مشاكلها تبدأ باستفزازات معروفة ضد عناصر أمنية وتجاوزات لمراهقين تنتهي بمآسي.. بل والاغرب اتهام الأمن بالاعتداء على مليشيا الاحمر "المسالمة جدا" واتهام الحرس بالتدخل لسحق ثورتهم "السلمية" بالحصبة، بينما قصة اعتدائهم على أمن مدرسة البنات معروفة، هل يقبل مجتمع محافظ بوجود مسلحين من "فحول" الشباب قرب مدرسة بنات في موسم امتحاني؟
كذلك اتهام الحرس بالاعتداء على ابرياء في ارحب ونهم، رغم ان القضية متعلقة بمليشيات مسلحة يحرضها الزنداني والاحمرين ضد الحرس، وهناك جماعات معروفة بدعم القاعدة- من رجال القبائل ومليشيات جامعة الايمان يتكالبون للاعتداء المتواصل على مواقع الجيش، ومثلها في جبل العر بيافع، وفي زنجبار وغيرها.. كذلك في الحيمة الخارجية فبهدف نشر الفوضى والعنف تم توزيع الاسلحة المختلفة للمليشيات الحزبية ونواب (الإخ- وان) وعلى راسهم النائب الاصلاحي ربيش العليي- صهر صبيان الاحمر- تم دعمه بمختلف أنواع الاسلحة لضرب معسكر الحرس.. والنائب الاصلاحي منصور الحنق في ارحب، واستهداف المصلين في معسكر الحرس هناك- استشهد منهم اكثر من 25شخصاً..و.و..الخ. تخلل هذا مواجهات دامية بصعدة والجوف ومارب حتى اليوم- بين حوثيين واصلاحيين لاعلاقة للحرس بها، ثم الانحدار لحمل السلاح في تعز المسالمة لاستفزاز الحرس، دون أي إدانة لحمل السلاح.
لم يكتفوا بهذا التشتيت والاستنزاف والتشويه لقوة الجيش الجديدة، بل حاولوا دق الاسافين بين نائب الرئيس- رجل الشهامة والمواقف- وبين قائد الحرس- المتماسك حتى الان، والمستوعب لكل مايحاك، فقد أوحوا للرأي العام المحلي والخارجي بأنه يسيطر على النائب ويرفض الانقياد بأوامره، ليوقعوا النائب في فخ الانقلاب على زعيم مازال على قيد الشرعية.. ثم تبين للعالم ان لدى احمد علي من الحكمة والاستيعاب ما يفوت الفرصة على شيطان الوقيعة، ويجعل نائب الرئيس تاجاً على الرؤوس.
كل ذلك لا يبدو من هدف له سوى تشتيت حماة الديار على اكثر من جبهة، والزج به في حماقة لا تحمد عقباها.. فبعد أن عجزت خطط الاستمالة والاستعطاف الفاشلة عن التأثير على منتسبي المؤسسة العسكرية الجديدة حاول التيار التقليدي المحروق ضرب القوة المنافسة، لأنها هزت كيان الطامعين في انتزاع الحكم وسرقة الشباب، وبسبب نجاح المؤسسة الجديدة في تجاوز الفخ، وصمودها الأسطوري كل هذه الشهور دون أي تفكك رغم ضراوة المرحلة، تمكنت مع قوى الشعب- المنحازة للأمن والاستقرار- من إسقاط المؤامرة، وتثبيت الشرعية الدستورية، واستعادة الموقف الخارجي بالكامل، بل حتى مع انشغال الرئيس بالعلاج في الخارج، وغيابه عن الوطن فشل الانقلابيون في انتهاز الفرص الكثيرة التي وفرها غيابه.
تسنى ذلك بفضل الحرس الجمهوري ووحداته الخاصة والقوى الامنية الباسلة التي تعملقت بمواقفها المتعـقلة وتضحياتها الجسيمة وكبرت كثيرا في نظر الشعب.. خاصة بعد أن ضبطت أعصابها وانصاعت لحكمة قائدها الاعلى عقب حادثة الرئاسة بالذات- عندما جنحت للسلم ولم تنجر للانتقام الذي كان سيحرق البلد لا محالة.. انصياع لا يصنعه الا الكبار.. لتحافظ على كبريائها وتماسكها وصلابة عودها الطري، في الوقت الذي خارت قوى الانقلاب الأكثر خبرة، وتهاوى جنرالها العجوز كأعجاز نخلٍ خاوية، بدليل انضمام بعض ألويته ومعسكراته الى صفوف الشرعية، واضطراره لتجنيد مجاميع من المراهقين دون سن البلوغ من صبيان الحارات وصغار الساحات ومنتسبي جامعة الايمان وجماعات (الإخ- وان) لتغطية الفراغ الذي تركه الفارون من قمعه وسجونه بعد ان انضموا لحزب الوطن الأكبر- فضلوا عدم مواجهة اخوة السلاح ورفضوا إقحام أنفسهم في مهام مشبوهة تديرها جماعات متطرفة ومليشيا قبلية وقوى انقلابية، خاصة بعد ان غيرت تكتيكها وانتقلت لاستراتيجية جديدة تستهدف اغتيال قادة وأفراد من الحرس والقوات الخاصة والمركزي والداخلية والامن والموالين، انتقاما من دورهم في تثبيت الشرعية الدستورية، للزج بالبلد في مواجهة أهلية لن تبقي ولن تذر حتى يسهل الانقضاض على إرادة شعب وخيار اغلبية لن يغلبها احد.. لكن سقطت كل تلك المحاولات الضارية.. وتعملق الدم الجديد.. لتنقلب الطاولة على متىمريها- وينقلب السحر على الساحر..
|