لحج نيوز/بقلم:آمال قرامي - من المُضحكات المُبكيات أنّني كتبت بتاريخ27/11/ 2011 مقالا حول عنف ما بعد الثورة وما كنت أعلم أننّي في اليوم التالي سأعاين صور عنف أخرى :انتهاك حرمة الجامعة: كليّة الآداب والفنون والإنسانيات بمنّوبة .
لقد فوجئنا صبيحة يوم الإثنين بغرباء يحتلون مداخل الأقسام ليمنعوا قسما كبيرا من طلبتنا من اجتياز اختباراتهم بالقوّة بعد أن غلّقوا الأبواب. ورويدا رويدا تحوّلت الساحات إلى منابر لتكفير عدد من الأساتذة وللتهجّم على المنهاج الجامعي لأنّه تمثّل ثقافة الاستعمار وانطلقت الحوارات والمشادات الكلامية بين الطلبة المؤيدين والرافضين للاعتصام، وبين الطلبة والأساتذة حول النقاب و المصلّى واختلط الحابل بالنابل واستعصى علينا معرفة هويّة المعتصمين...وكم كنّا نتمنّى أن تكون الجامعة فضاء لإنتاج أفكار جديدة وتصوّرات قد تساهم في فهم قضايا جوهرية تتعلّق بالتهميش والعدالة الاجتماعية والفقر والبطالة والارتقاء ببرامج التعليم في الجامعة حتى يكون حظّ المتخرّجين الجدد من الكليات أحسن ممن سبقهم ولكنّ الحوارات دارت حول مشروع أسلمة المؤسسات التعليمية.
وهكذا تحوّلت ساحات الجامعة إلى مجال مفتوح للمتنافسين على الزعامات والمتقمّصين شخصيات الدعاة: رجال في سنّ الاكتهال وشباب بلحى طويلة وأزياء أفغانية يدعّون الدفاع عن الثقافة الوطنية والحال أنّهم يتمشرقون زيّا وخطابا ولغة ، يجترّون نفس أساليب التعبئة الدينية المتداولة على الأنترنت وفي المواقع التكفيرية.
لم تكن القضيّة مرتبطة باحتجاج سلميّ فالعنف بدا واضحا منذ اللحظات الأولى التي انتصب فيها هؤلاء للخطابة وحالوا دون أداء الأساتذة مهمّتهم التربوية والتعليمية بل إنّ المسألة مرتبطة بمخطّط مسبق إذ سرعان ما جاءت التعزيزات : رجال ونساء من مختلف الشرائح الاجتماعية والأعمار: أكل وشرب وأغطية وغيرها ... وبدا واضحا أنّ الجماعة قرّرت احتلال مقرّ العمادة .
لم تكن القضية مرتبطة بحقّ المنقّبات في إجراء الامتحانات فقد حضرت هؤلاء وعددهن لا يتجاوز أربع فتيات، منذ انطلاق السنة الجامعية وقَبلن بضوابط القانون الداخلي الذي سنه المجلس العلمي يوم 2 نوفمبر المنقضي : الجواز لهن بدخول الكلية والساحة والمكتبة بالنقاب دون أن يعترض سبيلهن أحد والالتزام بكشف الوجه عند تلقّي الدروس ضمانا لشروط التواصل البيداغوجي ومساهمة منهن في توفير الأمن داخل الحرم الجامعي في فترة حرجة تمرّ بها البلاد، صار فيها أولياء الطلبة ، وخاصة الطالبات يعيشون حالات قلق على مصير أبنائهم. غير أنّنا فوجئنا بعد ظهور نتائج الانتخابات بتغير الموقف والسلوك إذ اخترقت طالبة منقبة الميثاق الأخلاقي الذي ينظّم علاقة المدرّس/ة والطلبة فإذا بها ترفض كشف وجهها لأنّها في موقف قوّة وستفرض ما تريد ولم تكتف بذلك بل طالبت أساتذتها بالمغادرة إن لم يعجبهم الحال، وشيئا فشيئا بدأ التصعيد الممنهج.
والأمر لا يختلف بالنسبة إلى حقّ المصلّى إذ جرت حوارات بين العميد ووفد من الطلبة وأعلمهم أنّ الكليّة تعيش وضعا خاصّا بسبب قلّة توفّر القاعات للتدريس ممّا جعل بعض الأساتذة يدرّسون في أجزاء من المكتبة ولذا اقترح مراسلة سلطة الإشراف حتى تبني جامعا يتردّد عليه الطلبة والأساتذة والموظفون والعملة في المركّب الجامعي بمنوبة .
هذه المفاوضات لم تعجب الجماعة فاستنصرت واستقوت بالإخوان والأخوات من خارج المجال الطلابي وانطلق مسلسل العنف اللفظي فالرمزي فالمادي. جحافل من الملتحين والمنقبات يسطون على مقرّ العمادة: الجزء العلوي أمام مكتب العميد مخصّص للفتيات، والجزء السفليّ يحتله الشبان ، يستبيحون لأنفسهم تصوير العميد والأستاذات والاعتداء اللفظي و المادي عليهم.
ليس ما حدث بكليّة الآداب بمنوبة معزولا عمّا وقع في كليّة الآداب بسوسة وما حدث في كلية الآداب بالقيروان وببعض معاهد الفنون الجميلة وما حدث ولا يزال يحدث في عدد من المدارس الابتدائية والمدارس الإعدادية والمعاهد الثانوية . ولمن اعتبرها فزّاعة وحادثة معزولة نقول: اسأل الإطار التدريسي والأولياء يأتوك بالخبر اليقين.
ولمن وعد أمام الجميع بأنّه سيدين الاعتداء بالعنف على الأساتذة أقول: هذا ما عشته يوم الإثنين 28 نوفمبر إذ كفّرت في ساحة الكلية، وفي يوم الثلاثاء انهالت عليّ وعلى غيري من الأساتذة الذين حاولوا التحاور مع الطلبة الشتائم ثمّ جاء يوم الأربعاء وفيه لاحقتنا بعض الفتيات المحجّبات والمنقبات لتصويرنا وعندما احتججت على هذه الممارسات قوبلت بمزيد من الإصرار على كشف سيئات الأستاذات بحثا عن الثواب وفوجئت وأنا في طريقي إلى المكتب بمجموعة من المنقبّات يهتفن نقابي عفتّي ....وأنت يا عاهرة . وانتهى اليوم بخروجي من الكليّة بهتاف جماعي Dégage » وعلى مقربة من موقف السيارات فوجئت بأحدهم يهدّدني بالاغتصاب.
وأتساءل موجّهة حديثي إلى زميلاتي وزملائي في اختصاص القانون كيف أثبت ما حدث والحال أنّ من شتمنني يختفين وراء نقاب؟ وهو سؤال ستطرحه أخريات في الشارع وفي عديد الفضاءات... ما العمل اذن ؟ أنؤسس جمعيّة للدفاع عن غير المنقّبات؟
ما حدث لي ولغيري من الأساتذة ليس هيّنا أو مبالغا فيه بل خطير ولئن تحرّجت بعض وسائل الإعلام فلم تذكر التفاصيل فها إننّي قد قدّمت شهادتي ... أنا من الجيل الذي حفظ عن ظهر قلب آداب المتعلّم والمعلّم ومنها من علمّني حرفا صرت له عبدا و قم للمعلّم وفّه التبجيل ...كاد المعلّم أن يكون رسولا .... وأنا من الجيل الذي نشأ على تحمّل المسؤولية فلم اختر الاعتكاف ببيتي حفظا لكرامتي ولم أردّد إنّ للكلية وزيرا يحميها .
لم الازم برجي العاجي لأشاهد عن بعد وعبر الحاسوب والتلفاز ما يقع في كليّة... كنت فيها طالبة ثمّ انتدبت للتدريس فيها بل آثرت أن أقوم بدوري التربوي فأقنعت طلبتي الذين أبادلهم الحبّ والاحترام بتجنّب الانسياق وراء التعبئة أو اللجوء إلى العنف لمواجهة الموقف .
وإن كان الانضمام إلى زملائي وزميلاتي للدفاع عن استقلالية الجامعة وعلوية قرارات الهياكل المنتخبة فيها وتحييدها عن التجاذبات السياسية الدينية ...فعلا شائنا في نظر من اعتدوا عليّ ...فليكن كذلك
وإن كان أدائي لواجبي المهني والتربوي الذي انتدبت من أجله يعدّ "عهرا" في شرعكم فأنا "عاهرة " .وسيشهد التاريخ أنّ من نساء تونس ورجالهاالذين نالوا الاعتراف و حازوا الأوسمة في المحافل العلمية الوطنية والدولية وأنجزت حولهم الأطاريح قد اهينوا وانتهكت كرامتهم في تونس ما بعد الثورة ...
ليست القضيّة مرتبطة إذن بنقاب ومصلّى بل هي متصلّة بمشروع مجتمعيّ: فصل بين الجنسين ، وتكليف الأساتذة الرجال بتدريس الذكور فقط والأستاذات بتدريس الإناث كلّ ذلك يفرض بطريقة قسرية تعتمد التكفير والترويع والشتم وتهدّد الحريّات الأكاديمية وأمن المؤسسات الجامعية. وبدل التشكيك في النوايا والتقليل من شأن ما حدث وتأويله تأويلات سياسية تعالوا إلى كلمة سواء : لنعالج ظاهرة التطرّف التي ستنسف مشروع الدولة المدنية كافلة الحقوق وضامنة الحريات ومحدّدة ضوابط المعاملات حتى لا يساء فهم قيم الحريّة والكرامة وغيرها ، لنحاول باعتبارنا أولياء وأساتذة مع ممثّلي المجتمع المدني وصناع الرأي العام والفاعلين السياسيين حماية أبنائنا من آراء دخيلة على مجتمعنا تقوّض السلم الاجتماعي وتشوّه الإسلام وتروّج لثقافة الكره. وليتحمّل كلّ من موقعه مسؤوليته ولنسمّ الأشياء بمسمياتها. فما حدث له صلة وثيقة بالتطرّف فكرا وممارسة ، وهو أمر مفهوم. فهؤلاء ضحايا النظام السابق تربّوا على القهر والذلّ والهوان ولم يجدوا سوى الإبحار في عالم "الجهادية" على اختلاف تلويناتها وإن كنّا نتفهّم ما حدث ولنا ألف قراءة وقراءة تحليلية لخطب القيت على مسمعنا تدعو إلى "الموت في سبيل حماية وجوه نسائنا من الكلاب" فإنّنا نستغرب بنية علائقية قائمة على كره الأساتذة رجالا ونساء والاعتداء عليهم والدعوة إلى طرد عدد منهم وفي المقابل تطلب العودة إلى مقاعد الدراسة والحقّ في نيل المعرفة. ألسنا إزاء تصدّع نمط العلاقات بين الكبير والصغير، الرجل والمرأة، المعلّم والمتعلّم، المتديّن وغير المتديّن.......
وفي اعتقادي لا يمكن فصل بناء مسار التحوّل نحو الديمقراطية عن عمل آخر يتمثّل في إعادة النظر في نمط العلاقات التي تربطنا بعضنا ببعض وفي تصوّرنا لمشاريع مجتمعيّة مطروحة اليوم وتتطلّب نقاشا معمّقا ونزيها يتسّم بالجرأة وتحمّل المسؤولية. |