لحج نيوز/بقلم:علي حسن الشاطر -
سبقت الإشارة في الحلقة السابقة إلى أن الزيدية كحركة إصلاح وتجديد فكري تُعلي من قيمة العقل وتشجع على الاجتهاد، تنسب إلى الإمام زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب الذي قاد سنة 122ه.. ثورة ضد الأمويين، وقتل في الكوفة بعد أن خذله وتخلى عنه أهلها لرفضه التبرؤ من الشيخين "أبي بكر وعمر" رضي الله عنهما. وسبق الحديث عن أن تراث الإمام زيد فيما يتعلق بالخلافة مبني على الأخذ بشروط الكفاية والعدالة والأهلية ومصلحة المسلمين وعدالة الوالي "مبدأ إمامة المفضول" وهذا التراث خال من أي زعم باشتراط نسبي وعائلي أو سلالي، ولا حتى أفضلية لحصر الخلافة في البيت العلوي، وسبقت الإشارة إلى أن اشتراطات حصر الولاية في سلالة بذاتها ظهر بشكل متأخر عند الفرق الشيعية الرئيسة والفرق المتناسلة عنها فيما بعد، التي اختلفت فيما بينها باختلاف درجة الحصر والخصوصية في النسب إلى آل البيت الذي تكون الولاية من حقه، وحصر الولاية في أبناء (فاطمة)، من (علي) أي من ذوي البطنين (الحسن والحسين) ساد عند زيدية اليمن وتحول إلى نهج سياسي واقعي على يد مؤسس الدولة الزيدية في اليمن الإمام الهادي واستمر ساري المفعول حتى قيام ثورة 26سبتمبر عام1962م.
الجذور السياسية المذهبية:
ما من شك أن الدراسة التحليلية الموضوعية للجذور والمنابع السياسية المذهبية للجماعة الحوثية من شأنه أن يسلط الأضواء على واحدة من أهم تجارب التشيع السياسي المعاصر، وتحوراته المذهبية والفكرية العقدية الموظفة باتجاه تحقيق مشروع سياسي غير وطني ذي أبعاد إقليمية، وموجه لإحداث اختراقات نوعية كبيرة في الوحدة الاجتماعية والسياج العقائدي والأمني والإستراتيجي لليمن والدول المجاورة.
الجذور السياسية المذهبية للمشروع السياسي لعناصر الارهاب والتخريب الحديثة وإن تعددت واختلفت فروعها وتشعباتها التاريخية والمعاصرة، المحلية والداخلية، إلا أن مصدرها الرئيس يتمثل في:
أولاً: التشيع السياسي:
ويمثل الأرضية التي يقوم عليها ، والأهداف التي تصبو إليها مختلف الحركات السياسية الدينية الشيعية المعاصرة باختلاف وسائلها وشعاراتها السلمية وغير السلمية، ويقوم على أساس الاحتكار لأحقية إدارة شؤون الأمة وحكمها سياسياً وروحياً، في سلالة تنتمي لآل البيت، ومصادرة إرادة الشعوب وحقوقها في اختيار من يحكمها، وإلغاء حقيقة أن السلطة حق عام لكل أفراد الأمة، والتأسيس لمشروعية ما يدعيه غلاة الشيعة الحق الإلهي لآل البيت والسعي إلى استعادته بأية وسيلة من الوسائل الممكنة والمتاحة، المشروعة وغير المشروعة.
وعلى الرغم من إجماع غالبية الفرق والجماعات الشيعية حول هذه القضية المحورية الخطيرة "السلطة السياسية والروحية" في المجتمعات الإسلامية، باعتبارها حقاً محتكراً لآل البيت، إلا أن تبايناتها واختلافاتها تتمحور في درجة القرابة والخصوصية التي تحدد أصحاب المصالح، وأصحاب هذا الحق دون غيرهم، (فالاثناعشرية تحصر هذا الحق في (12) إماماً من الحسينيين، أولهم الإمام علي رضي الله عنه، وآخرهم (المهدي المنتظر) المخفي أو المتخفي منذ كان عمره أربع سنوات، والبعض يحصرها في أحد البطنين في ذرية الحسين، الحسينيين، وكما هي الحال لدى الزيدية الهادوية فتحصرها في البطنين " ابنيْ (فاطمة) (الحسن) و(الحسين) رضي الله عنهما، وهناك من يحصرها في الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وفي أولاده الثلاثة "الحسن والحسين ومحمد" المعروف بابن الحنفية، وهناك من يقولون في بني هاشم وآخرين في قريش).
هذه الفرق التي خرجت من مصدر واحد، وتناسلت من بعضها البعض، تحمل في تراثها الكثير من التباينات والتناقضات الحادة، (الفقهية والعقائدية والتشريعية) تصل إلى حد تكفير بعضها للبعض الآخر، إلا أن معطيات الواقع السياسي المعاصر خلقت فيما بينها نوعاً من التقارب السياسي الموجه حيناً والتلقائي حيناً آخر، فجميعها تقوم مشاريعها السياسية على أرضية التشيع وتلتقي في الهدف العام وهو ما يساعد على التقارب في الوجهة في الجانب السياسي بين مختلف الجماعات والفرق الشيعية بغض النظر عن اختلاف القناعات العقدية والفقهية وفلسفة كل منهما.
المشاريع السياسية الضيقة المختزلة أهدافها في السلطة السياسية والروحية باعتبارها حقا إلهيا والتمترس في الدفاع العقائدي عنها باعتباره واجبا دينيا، هذه المشاريع وأصحابها ظلت على الدوام، ولا زالت حتى الآن، السبب والمحرك الرئيس للفتن الاجتماعية والدينية، ومصدراً للتطرف والتعصب بشتى صوره وأنواعه، فمع التطور الذي شهدته المجتمعات الإسلامية في بنيتها الاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية، وشيوع الممارسة الديمقراطية والانتخابات الحرة.. تراجع الأمل عند النخب الاجتماعية والسياسية الدينية الحاملة لمشروع التشيع السياسي في بناء سلطاتها الإمامية الخاصة، واستعادة ما تعتقده حقها الإلهي والشرعي في القيادة السياسية والروحية للشعوب، وهو الأمر الذي قاد إلى اتساع وتنامي حدة الصراعات والفتن والتمردات المسلحة على الشرعية الدستورية والوطنية التي تغذيها بعض قوى التشيع السياسي في العديد من الأقطار، (التمرد الحوثي المسلح نموذج لذلك).
مع أن حصر الإمامة في البطنين يعتبر من المقررات والإرث السائد في الفكر السياسي الزيدي الهادوي، إلا أنه أصبح اليوم في نظر الغالبية الساحقة من زيدية اليمن شيئاً من التاريخ، وتجاوز علماؤها في الأعم الأغلب الكثير من قيود وإرث من سبقهم وقدموا الاجتهادات التجديدية التي توائم متغيرات الواقع ومستجداته المعاصرة وتصب في خدمة تطوره، وبما يتفق وقواعد المذهب وما يتميز به من سعة نظر وتحرير العقل وقدرته على التجدد والاجتهاد، بما في ذلك إشكالية الإمامة وحصرها في البطنين، وقدم كبار علماء الزيدية ومرجعياتها رؤية اجتهادية معاصرة لمعالجة هذه الإشكالية تضمنتها الفتوى التي أصدروها بهذا الشأن وتؤكد أن تعيين وانتخاب الحاكم أو الرئيس منوط بالأمة وأفراد الشعب يضعونه في من يريدون دون تقيد بعرق أو نسب، ولا مجال لحصر الولاية العامة في عنصر أو سلالة.. وقدم العديد من علماء الزيدية المعاصرين اجتهادات مماثلة لمعالجة إشكالية الخروج عن الوالي السائدة في الموروث السياسي للزيدية، مقررين أن أمر الخروج اليوم وفي عصرنا الديمقراطي الراهن موكل إلى الأشكال الديمقراطية الشوريّة المعاصرة والمتمثلة بحجب الثقة عبر البرلمان والدعوة إلى الانتخابات المبكرة من قبل الشعب، أما موقف الأقلية ممن لا زالوا متشرنقين في فكرهم ومعتقداتهم ضمن إطار الموروث المتخلف، ويتمترسون في الدفاع عنه، فهو نابع من تطلعات سياسية غير مشروعة أو الانصياع لإرادة سياسية خارجية، ويسعى أصحاب هذه المواقف لتوظيف الدين أو المذهب والموروث المتخلف لتحقيق هذه التطلعات أو تنفيذ أجندة خارجية، وهؤلاء القلة لا يعبرون عن واقع الزيدية المعاصر وجمهورها، ولكنها مع الأسف شكلت النواة التأسيسية لعناصر التمرد والإرهاب الحوثية التي تم استزراعها في الواقع الوطني والإقليمي.
لقد اختزل ظهور التمرد والإرهاب الحوثي على مسرح الأحداث الوطنية في العام2004م، بخطاب سياسي أيديولوجي معاد مهمته صب المزيد من الوقود على نيران الفتنة وتوسيع دائرة الصراع على أساس مذهبي بين الزيدية والشافعية، هذا الخطاب وضمن سياق نهجه في تزييف الحقائق والوقائع، حاول جاهداً أن يختزل الزيدية اليمنية في الحوثيين وتقديم الوقائع والأحداث باعتبارها حربا ضد الزيدية، وفي مرحلة متأخرة وبالتزامن مع تمدد الصراع إلى الحدود السعودية، سعى القائمون على هذا الخطاب السياسي الأيديولوجي اختزال جماعات الشيعة في الحوثية، وتصوير الأحداث باعتبارها صراعا إقليميا بالوكالة بين السنة والشيعة.
وفق هذه المعطيات لا يمكن تصنيف الحركة الحوثية حركة مذهبية زيدية هادوية أو حتى حركة شيعية اثنى عشرية بالمفهوم الإيراني، بقدر ماهي حركة سياسية بامتياز شذ مؤسسوها عن المذهب الزيدي، وحاولوا استثمار قاعدته الاجتماعية وموروثه لتحقيق مشروع سياسي بامتياز لا يحمل أي أهداف مذهبية زيدية.
ثانياً: النواة السياسية المؤسسة للحركة:
الجذور السياسية المذهبية للحركة الحوثية يمكن قراءة أبجدياتها ومفرداتها بكل شفافية ووضوح من خلال السيرة الذاتية والقناعات السياسية للنواة المؤسسة لهذه الحركة وبالذات مرجعيتها الدينية العليا، بدرالدين الحوثي وتنظيم الشباب المؤمن، والمؤسس والقائد العسكري والسياسي للحركة حسين بدرالدين الحوثي وأخيراً موروثه الفكري النظري الذي تستمد منه الحركة مشروعيتها في تمردها على الدولة وحربها ضد المجتمع.
فقد ولد بدرالدين بن أميرالدين بن الحسن بن محمد الحوثي بمدينة ضحيان بمحافظة صعدة سنة 1345ه، ويعتبر المرجعية الدينية العليا لهذه الجماعة والمشرف الأعلى على تحديد الخط العام لمناهجها الدينية، ومراجعة وإجازة المحاضرات والبرامج التربوية الثقافية التي تعكس قناعاته الفكرية العقدية والسياسية، المتشددة فيما يتعلق بقضية الولاية والخروج على ولي الأمر والموقف من المذاهب والجماعات الأخرى، وغيرها من المواقف والقناعات المتطرفة المنصوص عليها في بعض المراجع والموروث الفكري السياسي للزيدية التي لا تلبي متغيرات العصر واحتياجات الشعب، وأصبحت محل نقد وتحفظ، واجتهاد من قبل المراجع الزيدية العليا.
ينتمي فكرياً وسلوكاً عقائدياً إلى الجارودية التي يصنفها البعض من الباحثين كواحدة من فرق المذهب الزيدي الهادوي، ويصنفها البعض الآخر بأنها طائفة تسترت بالزيدية وحاولت أن تنشط تحت عباءتها ولكنها مستقلة ومختلفة عنها، وتنسب الجارودية إلى أبي الجارود زياد بن منذر الهمداني الأعمى الكوفي، والعديد من الفرق الزيدية تكفر الجارودية وتعتبرها من الإمامية الاثني عشرية التي تكفر الصحابة، وتقول "إن النبي صلى الله عليه وسلم خص علي بن ابي طالب بالخلافة من بعده، وذكر ذلك بالوصف لا بالتسمية، وأن الناس ضلوا وكفروا بتركهم بيعة الإمام علي رضي الله عنه، وعدم الاقتداء به بعد الرسول ومخالفتهم النص الذي يقول (بالحق الإلهي لآل البيت في الحكم) وهذا النص الذي تقوم عليه فلسفتهم السياسية، يؤكدون عليه في مراجعهم وكتبهم الخاصة، ووفق رأي العلماء بأن هذا النص غير مذكور لا في الكتاب ولا في السنة.
اختلف بدرالدين الحوثي مع العديد من المرجعيات الزيدية والعلماء المجددين السابقين والمعاصرين في كثير من القضايا السياسية المعاصرة، رحل إلى إيران وأقام فيها عدة سنوات في فترات متباعدة متنقلاً بين طهران وقم.. يعتبر من أبرز رموز وممثلي الأسر المنتمية لآل البيت وقيادات التيار السياسي الإمامي المؤسسة لحزب الحق بعد الوحدة اليمنية، وبرز في صفوف الحزب كأحد قطبيْ الصراع الفكري العقدي والسياسي والتنظيمي، ومتزعماً للتيار المتشدد المتمسك بمواقفه إزاء الموروث السياسي الديني للتيار الشيعي المتطرف الداعي بالحق الإلهي لآل البيت في السلطة والحكم ويرفض كل أشكال التجديد والتغيير فيما يتعلق بهذا الموروث، يستلهم في نشاطه مبادئ وشعارات وفكر الثورة الخمينية، ونهجها الفلسفي العالمي في إعداد الشباب وتربيتهم ويستند إليه في تحقيق مشروعه السياسي، وهذا التيار الفكري السياسي والحزبي انبثقت من تحت عباءته التاريخية والسياسية والدينية، الجماعة الحوثية وعقيدتها السياسية الدينية الإرهابية المتطرفة ومشروعها السياسي.
في مواجهة هذا التيار المتطرف والمتشدد برز تيار الاعتدال والواقعية داخل الحزب الذي يمثله المرجع الديني الأبرز للزيدية في اليمن العلاّمة مجدالدين المؤيدي، هذا التيار يمثل امتداداً للأسر المنتمية لآل البيت والتيار السياسي الزيدي الذي حمل على عاتقه مهمة التحديث والتجديد الفكري المذهبي والتغيير الثوري الوطني ممن قادوا ثورة1948م وساهموا في قيادة ثورة26سبتمبر وشارك بفاعلية في كل التحولات الوطنية، هذا التيار يمثل امتداداً عضوياً لفكر وبيئة المذهب الزيدي بتوجهاته الوطنية والثورية المعاصرة وتعاطيه الايجابي المثمر مع متغيرات الواقع السياسي اليمني بأبعاده الديمقراطية الشعبية وتعدده السياسي والحزبي.
لقد فشل بدرالدين الحوثي وتياره الحزبي أن يجعل من الحزب مظلة سياسية لتحقيق مشروعه الطائفي واحتواء كل أبناء الطائفة الزيدية داخل الحزب، وكذلك فشل إلى حد ما في أن يجعل من الحزب معقلاً لتيار الإمامة البائد، وكان أعجز من أن يقف في وجه السيل الجارف للمتغيرات الديمقراطية المتسارعة وتطور الوعي السياسي الثقافي للقطاع الواسع من أبناء الطائفة الزيدية التي حددت خياراتها وانتماءاتها الحزبية على أسس وطنية وبرامج سياسية تنتمي بفعلها للحاضر والمستقبل وتتصدى بحزم لكل مشاريع العودة إلى الوراء، الأهم من ذلك عدم قدرته في احتواء التشريعات الدستورية والقانونية الضابطة والمنظمة لعملية إنشاء الأحزاب ونشاطها السياسي التي تحظر وجود ونشاط أي حزب سياسي يقوم على أساس سلالي أو مذهبي طائفي أو جهوي مناطقي، وأي مليشيات حزبية مسلحة، وتحتم أن يكون الحزب ذا طابع وطني من حيث مكونه التنظيمي وقاعدته الاجتماعية والجغرافية والفكرية السياسية، وأهدافه وبرامجه النظرية ودوره ورسالته الوطنية والتاريخية .. وأثبتت المتغيرات والوقائع السياسية والحياتية المبكرة، للتيار الحوثي وأنصاره استحالة استمرارية ونجاح أي حزب لا يقوم مكونه على أسس وطنية جامعة، واستحالة نجاحه في بناء حزب سياسي علني يقوم على النقاء السلالي والمذهبي وعقيدة فكرية أيديولوجية توظف الدين والمذهب وموروثه في خدمة مصالح وتطلعات سياسية ماضوية.
ما من شك أن فشل بدرالدين الحوثي في تأسيس حزب سلالي طائفي حامل لمشروعه السياسي ومؤهل لأن يكون الأداة السياسية والاجتماعية والثقافية والعسكرية الضرورية والقادر على تحقيق مشروعه السياسي، قد دفعه إلى البحث عن خيارات ووسائل أخرى بديلة، ومثلت عناصر التمرد والإرهاب التي حملت فيما بعد اسم (الحوثية) البديل والأداة والقوى الحاملة لمشروعه السياسي، وجاءت صناعتها على يد ابنه حسين بدرالدين الحوثي.
(وللموضوع بقية..)
المصدر : صحيفة الرياض *