لحج نيوز/وكالات -
سياسيون تونسيون يتهمون السعودية وقطر بتمويل فتنة طائفية يمكن أن ترمي ببلادهم في أتون معركة بين المذاهب.

‘التبشير الوهابي’ يتمظهر في المجتمع التونسي

بعد أكثر من سنة ونصف على ثورتهم التي أسقطت نظام الرئيس السابق بن علي في 14 يناير/كانون الثاني 2010 بات غالبية التونسيين “يتحسرون” على “الاستقرار الاجتماعي والسياسي” و”أمن حياتهم العامة والخاصة” وعلى “وحدة مجتمعهم الدينية والاجتماعية والثقافية”

وترى قطاعات واسعة من التونسيين أن وحدة مجتمعهم السني المالكي تتهددها “أخطار التمزق الديني والمذهبي” في ظل تنامي سريع ومريب لسطوة التيارات السلفية التي لم تتردد في أكثر من مناسبة بالتهديد بـ “حرب لا تبقي ولا تذر من أجل “تطبيق شرع الله” وبناء “دولة الخلافة الراشدة” و”رفض مدنية الدولة” و”النظام الجمهوري العلماني الكافر”.

ولا يتردد غالبية التونسيين في القول إن بلادهم “تخطو نحو الفتنة” بعد أن تحول الاستقطاب السياسي والاحتقان الاجتماعي إلى “مأزق حقيقي” استغله السلفيون ليبسطوا نفوذهم بالعنف على المشهد العام في المجتمع ابتداء من منابر المساجد إلى الفضاءات الثقافية مرورا بالساحات العامة، يهاجمون فيها كل من خالفهم الرأي تحت عنوان “الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر” في حالة شبيهة بميليشيات الشرطة الدينية.

وخلال الفترة الأخيرة زج السلفيون بالمجتمع التونسي في حالة من “الرعب” بعد أن تجاوزت أعمالهم ممارسة العنف وانتهاك الحريات إلى السعي إلى “فرض مفهومهم للإسلام وللشريعة الإسلامية” وإلى “المطالبة ببناء دولة إسلامية ومجتمع إسلامي” وفق فهمهم طبعا.

ولم تكن خشية التونسيين من الزج ببلادهم في فتنة دينية ومذهبية مجرد تخمين بل هي خشية تغذيها ممارسات الجماعات السلفية وممارساتها.

فقد قال الناطق الرسمي باسم حركة “أنصار الشريعة”، وهي جماعة سلفية جهادية سيف اللّه بن حسين نحن “لا نعترف بحكومة لا تحتكم إلى شرع اللّه”.

وأضاف “نحن مشروعنا هو إعادة الثقة بأن الحكم بالشريعة هو الضامن لحياة رغدة لهذا الشعب.. وحراكنا في هذه المرحلة هو تمهيد لقيام دولة الإسلام” مضيفا “سيكون هذا بإذن اللّه تحقيقا أحب من أحب وكره من كره”.

وأكد بن حسين أن “تسمية السلفية الجهادية هو المحكّ، هو شعار شرعي.. وهذا الاصطلاح استعملته قيادات ومشائخ تابعة لهذا التيار منذ عشرات السنين مثل أبو قتادة الفلسطيني.

غير أن بن حسين لا يخف تأييده لحكومة النهضة.

ومما عمق حالة “الاختناق الاجتماعي” أنه في الوقت الذي تؤكد فيه القوى الديمقراطية على إرساء تقاليد حوار بناء، يرفض السلفيون أي خطوة نحو محاورة من يخالفهم الرأي في مجتمع لم يتعود على لغة “حجة القوة”.

وردا على تصريح الرئيس منصف المرزوقي أكد فيه استعداده لمناظرة تلفزيونية مع من يمثل التيار السلفي رفض أمير السلفية الجهادية بن حسين المناظرة “من حيث المبدأ” قائلا “أنا أرفض مناظرته لأنه لا توجد أرضية نستطيع أن نقف عليها” وأضاف أنا سأتكلّم بقال الله تعالى وقال الرسول صلى الله عليه وسلم أما هو فبماذا سيتكلم؟

ويقول الفاعلون السياسيون إن الأحداث التي شهدتها تونس خلال شهر رمضان الماضي هي “على قدر كبير من الخطورة” أولا، لأنها تندرج في إطار محاولات لـ “إغراق” البلاد في قضايا هامشية وصرف نظر الرأي العام عن القضايا الحقيقية خاصة بعد أن شهدت البلاد ارتباكا كبيرا من حيث توفير الحكومة للخدمات الأساسية، وثانيا لأنها تزرع بذور الفتنة بين التونسيين وخاصة بين القوى اليسارية والعلمانية والحركات الإسلامية.

ويرى عدد من المتابعين للشأن العام التونسي أن الثورة التونسية تتجه نحو دكتاتورية دينية وان المسار الديمقراطي يواجه تحديات خطيرة قد تؤدي إلى إعادة سيناريو الجزائر.

ولاحظ المحلل السياسي زياد كريشان أن “وحدة تونس الدينية والاجتماعية أصبحت مهددة في ظل تحول نوعي للعنف السلفي في المجتمع” مشيرا إلى أن السلفيين “كسبوا معركة ممارسة العنف في إطار تسامح واضح من طرف الحكومة لذلك قرروا خلال الفترة الأخيرة الانتقال إلى مرحلة أكثر خطورة وتصعيدا يطالبون فيها المجتمع التونسي بتغيير فهمهم للإسلام ولثقافته ولتاريخه وطقوسه وعقائده وفق منهج لم تعرفه تونس منذ الفتح الإسلامي”.

ويضيف كريشان “إن الإسلام الوهابي الذي يريد السلفيون فرضه على التونسيين كان رفضه شيوخ الزيتونة عندما راسلهم الوهابيون في بداية القرن التاسع عشر طالبين منهم أن يستبدلوا مذهبهم المالكي بالسلفية الوهابية”.

من جهته حذر الشيخ عبد الفتاح مورو من “فتنة” وقودها “دعاة سعوديون وقطريون يزورون تونس لنشر الفكر الوهابي المتطرف” مشددا على أن تونس أصبحت مرتعا لهؤلاء الدعاة يستقطبون شبابا ليس لديهم معرفة دينية عميقة وصحيحة ويعلمونهم قواعد الفكر الحنبلي ويهيؤونهم لأن يصبحوا طابورا في بلدنا يدعو إلى استبعاد المذهب المالكي وإحلال المذهب الحنبلي محله”.

ومنذ صعود حركة النهضة الإسلامية إلى الحكم إثر فوزها في انتخابات 23 أكتوبر/تشرين الثاني 2010 يتوافد على تونس دعاة سعوديين وقطريين بهدف نشر المذهب الوهابي وينظمون “دروسا دينية مغلقة” ويدفعون مقابلا ماديا للشبان الذين يتابعونها وهو ما يعتبره التونسيون أمرا في منتهى الخطورة لأنه يفتح باب “فتنة” دينية مذهبية.

وقد أجج دعاة المذهب الوهابي حالة التشنج الديني والاجتماعي في تونس المتجانسة مذهبيا بعد أن استقطبوا الآلاف من شباب يعاني من الفقر والتهميش والحرمان مقابل مبالغ مالية ووعود بـ”النصر” على العلمانيين.

ويبدو أن “التبشير الوهابي” قد اخترقت بعض تمظهراته المجتمع التونسي حيث بإمكان الزائر لتونس أن يرى في شارع الحبيب بورقيبة وسط العاصمة مشهد امرأة منقبة ملفوفة في خمارها الأسود تسرع الخطى خلف بعل ملتح يرتدي جلبابا ابيضا وعلى رأسه طاقية بيضاء، وهو مشهد غريب عن التونسيين.

وإزاء استفحال تمظهرات الإسلام الوهابي قال الباحث في الإسلام السياسي كمال الساكري “نحن نعيش بداية فتنة حقيقية في تونس، إن للوهابية موطئ قدم ما فتئ يتعاظم في بلادنا بفضل البترودولار والأئمة القادمين” من دول الخليج.

وأضاف “ثمة أطراف خليجية مثل السعودية وقطر تمول عملية فتنة طائفية في تونس والرمي بالبلاد في أتون معركة بين المذاهب”.

ومن جهته لم ينف الباحث في تاريخ تونس المعاصر خالد عبيد فرضية الحرب الأهلية وقال بأن ما نراه اليوم “يزرع الفتنة بتقسيم التونسيين إلى علمانيين وإسلاميين وتصنيفهم الى كفار ومسلمين”.

وأضاف أن تعرض المفكرين والمبدعين والمثقفين والإعلاميين وحتى بعض رجال الدين إلى التهديد بالقتل من قبل السلفيين يعد آخر المؤشرات التي تؤكد توجه الوضع العام إلى مزيد الاحتقان الذي يهدد وحدة المجتمع واستقراره.

وبرأي عبيد فإن “الشعب التونسي غير محصن بما فيه الكفاية أمام الخطاب المتطرف وليس له الإمكانيات الفكرية والفقهية للتمييز بين مدى خطورة هذا الخطاب الوهابي من عدمه “مشددا على أنه “لا يمكن لأي فرد أيا كان انتماؤه أو مرجعيته الفكرية أن يفرض سلطته على الآخر علما”.

وعلى الرغم من إجماع غالبية التونسيين بأن الفتنة تتغذى من عوامل داخلية وأخرى خارجية وأن فتيلها يشعله السلفيون الذين استباحوا “الخطوط الحمر” في المجتمع التونسي وفي مقدمتها التسامح وحرمة الحريات الفردية والعامة فإن حركة النهضة التي تقود الائتلاف الحاكم تلقي باللائمة على التيارات اليسارية والعلمانية.

فقد اتهم رئيس الحركة راشد الغنوشي “اليسار المتطرف” و”الإتحاد العام التونسي للشغل” و”بقايا حزب التجمع المنحل” بالوقوف وراء موجة احتجاجات المحرومين التي عادت لتعصف بغالبية جهات البلاد وطالبوا خلالها بـ”إسقاط الحكومة” لفشلها في معالجة الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية.

ويقول الغنوشي “إن ما يحصل اليوم من أحداث عنف وفوضى وراءها أطراف من الإتحاد العام التونسي للشغل تحالفت مع التجمعيين واليسار المتطرف”.

لكن الباحث في العلوم الاجتماعية سالم لبيض لاحظ أن السلفيين هم الذين يحاولون إحياء نزعة الفتنة الدينية عبر إحداث انقسام يشق صفوف الشعب بين “الديني المتشدد” و”العلماني الحداثي التنويري”.

ويضيف أن هذه المحاولات “إن استشرت يمكن أن تتحول إلى نوع من العنف المسلح تنخرط فيه تنظيمات ضالعة في العنف المسلح على غرار تنظيم القاعدة عبر استدراجها أو توريطها للقيام بعمليات”.

ويؤكد المختصون في دراسة الجماعات الإسلام السياسي وفي مقدمتهم محمد الطالبي أن راشد الغنوشي هو نفسه “سلفي الفكر والعقيدة والمنهج” وهو “يحاول استغلال مساحات الحرية التي تعيشها تونس بعد الثورة لـ “لإقناع التونسيين بأن النهضة حزب سياسي في خطابه العلني، وبالمقابل ينتهج خطاب عقائدي لا فرق بينه وبين خطاب أمراء السلفية الجهادية”.

وخلال الفترة الأخيرة أجرى الغنوشي اتصالات ولقاءات مع عدد من أمراء الجماعات السلفية بهدف “ترويضهم” وكذلك من أجل “كسب تأييدهم لحركة النهضة لأن في فوزها خلال الانتخابات القادمة على العلمانيين هو فوز للسلفيين أيضا باعتبار أن الخصم هو واحد”.

ويخشى التونسيون أن تستيقظ الخلايا النائمة لتنظيم القاعدة التي دخلت البلاد لتقدم على القيام بأعمال إرهابية خاصة بعد أن أكدت الأجهزة الإستخباراتية التونسية دخول نشطاء القاعدة إلى الأراضي التونسية.

وتابع لبيض “قد ينفجر الوضع الأمني وربما تكون تلك نهاية التجربة الديمقراطية والعودة إلى الاستبداد الشيء الذي سيجعل عامة الناس يحنون إلى الأيام الخوالي ويطالبون بنظام قمعي يوفر لهم الأمن ولتذهب عند إذن الديمقراطية والثورة وما طالبت به النخب إلى الجحيم في رأييهم”

وبقدر ما يخشى التونسيون على أن بلادهم تخطو نحو الفتنة بقدر ما يتوجسون من أن “أمنهم” و”حريتهم” و”وحدتهم الوطنية” تتعرض إلى مساومة خطيرة مقابل “الاعتراف بحق السلفيين بالنشاط والحوار معهم” وهو ما عبر عنه عدد من قادة حركة النهضة الذين يتهمون وسائل الإعلام بتهويل “العنف الذي يمارسه السلفيون”.

وفي ظل تسامح الحكومة مع تنامي السلفيين ما انفك السياسيون والحقوقيون في تونس يحذرون من أن بلادهم “أصبحت مهيأة لفتنة تتغذى من عوامل داخلية كما تتغذى من سعي جهات خارجية” خاصة بعد أن اتهمت الرابطة التونسية لمناهضة المد الشيعي المركز الثقافي الإيراني التابع لسفارة إيران بتونس بنشر المذهب الشيعي في تونس وطالبت الحكومة بإغلاقه “فورا”.

ورغم أن التقديرات تشير إلى أن أتباع المذهب الشيعي لا يتجاوز 2000 شخص أغلبهم يسكنون في محافظة قابس (جنوب شرق) فإن التونسيين يرون في ترخيص حكومة النهضة لثلاث جمعيات شيعية من شأنه أن يزيد في تهديد الوحدة الوطنية ويفتح الباب أمام فتيل فتنة ذات راسين، فتنة سنية شيعية تضاف إلى فتنة مالكية وهابية.

وبرأي رئيس الرابطة التونسية لمناهضة المد الشيعي أحمد بن حسانة فإن المجتمع التونسي السني “مستهدف بفتنة نشر التشيع في عبر مخطط يقوم على رصد الأموال وتجنيد الأشخاص وتكوين خلايا نائمة ذات ولاء لإيران ولمراجع شيعية تشتغل حسب أجندات صفوية عنصرية”.

ويشدد على أن هذه الجمعية تعمل على “زرع الفتنة الطائفية” في تونس ملاحظا أنها “في ظاهرها منظمة ثقافية وفي باطنها عقائدية مندسة في المجتمع التونسي، ذات ولاء لدولة إيران وأهدافها معادية لهوية تونس السنية المالكية”.

وفي17 آب/أغسطس الجاري جرت بمدينة قابس مواجهات بالهراوات والحجارة بين سلفيين متشددين ومجموعة شيعية خرجت في مسيرة بمناسبة “يوم القدس العالمي” الذي يتم إحياؤه سنويا في الجمعة الأخيرة من شهر رمضان.

وأسفرت المواجهات عن “وقوع عديد الإصابات” وأحرق السلفيون الذين احتجوا على تنظيم المسيرة علم دولة إيران.

وكانت “جمعية أهل البيت الثقافية بتونس” الشيعية هي التي دعت إلى تنظيم المسيرة بهدف “تحريض شيعة قابس على الخروج في مسيرة ظاهرها نصرة الأقصى وباطنها إظهار الاقتداء بإيران والولاء لفكر الخميني.

من جهتها وصفت “جمعية أهل البيت الثقافية بتونس” في صفحتها الرسمية على الفيسبوك السلفيين الذين اعتدوا على المسيرة بـ”الفئة الباغية التي تريد نشر الفتنة والتفرقة في مجتمعنا خدمة لأعداء الشعب من صهاينة ووهابية”.

وهذه أول مرة يقفز مفهوم “الفئة الباغية” إلى الخطاب السياسي والديني التونسي ليحيل ذاكرة التونسيين إلى الفتنة الكبرى التي شهدها التاريخ الإسلامي بين الصحابيين علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان.

وهكذا وجد السلفيون مدخلا إضافيا ليستنفروا قواهم رافعين راياتهم السود وشعار “تغيير المنكر باليد” و”حماية البلاد من الرافضة، أي الشيعة”.

وبالفعل فقد هاجم “أبو عياض”، زعيم “ملتقى أنصار الشريعة” وهو التنظيم السلفي الجهادي في تونس، الشيعة وتوعد بطردهم من تونس.

وبرأي المحلل السياسي زياد كريشان فإن هذا الوضع السياسي والاجتماعي والثقافي الهش هو نتيجة خطة محكمة سطرتها حركة النهضة تهدف في مرحلة أولى إلى تهميش وإضعاف القوى اللبرالية والعلمانية، وتهدف في مرحلة ثانية إلى تمزيق النسيج الاجتماعي الوطني من أجل إعادة نسجه “وفق مفهوم النهضة والسلفيين للدولة والمجتمع”.

ويتفق السياسيون والحقوقيون على أن حركة النهضة “لعبت بالنار” عندما أطلقت العنان للأصوات المحافظة داخلها لمغازلة التطرف السلفي وخاصة في حربهم غير المقدسة ضد “المس من المقدسات” مشددين على أن “أكبر تهديد للحريات ولوحدة المجتمع هو الظاهرة السلفية التي تخول لنفسها حق الاعتداء على غيرها تحت غطاء الدين وتدعي احتكار الإسلام” على حد تعبير زعيم الحزب الجمهوري أحمد نجيب الشابي.


ميدل ايست أونلاين