بقلم/محمود الهجري -
حين تتجول في سوريا لا تشعر بما يهدد الأمن والاستقرار.. لكنك تكتشف ذلك حين تفتح التلفزيون على قناة "الجزيرة" وأخواتها ريف دمشق الذي يحتضن التاريخ والفكر صار هدفاً لنصع شهية المجاهدين "التتار الجدد" المفتوحة للقتل والدمار.
دحابة يجمع التبرعات ولم يسلم حتى الأطفال في المدارس من أعماله التحريضية ضد الشعب السوري واستقراره وسكينته, في وقت ما يحتاج أطفال سوريا لمن يسكت أصوات الانفجارات من خلال المصالحة ودعاوى السلام.
يتعاظم الشعور بدوام صمود خضرة سوريا وأنهارها وأشجارها برجالها ونسائها.. وإلحاق الهزيمة بالمفخخين والملغمين بالتكفير ونزوات القتل من قوم طارئين جبلوا على مخاصمة الاستقرار والسكينة وحبات المطر.
(7) آلاف سنة من عمر هذه الأرض تكتنز في كل شبر منها روحاً مقاومة للعبث، وتوثباً للانتصار.. تاريخ طويل وثقافة أصيلة لا يمكن للطارئين النيل منها.. إنها سوريا صباحاتنا البهية، ومواويلنا التي لا تجف ينابيعها.
سيصمد الجمال، ويقاوم جحافل القبح، وسينتصر.. المؤامرة كبيرة لكنها تتهاوى وتتضح ملامحها البشعة يوماً بعد الآخر.
سيطر سؤال قلق على الحالة السورية إذا ما سقطت بسبب الجماعات الجهادية (وليس على يدها) ما الذي سيحدث؟.. كثير من المراقبين اتفقوا على أن التشرذم أو التشظي الذي ستعيشه سوريا، سيمتد إلى دول المنطقة ولن تسلم منه أمريكا نفسها.. وكان آخرون قد ذهبوا إلى أن ما يحدث في سوريا بإدارة أمريكية اسرائيلية عربية هدفه إضعاف الجيش العربي السوري من جهة، وتحويل سوريا إلى مكب لنفايات التطرف من خلال حشد الجهاديين من كل مكان وتدرك هذه الإدارة إمكانية ما سيلحق الجيش السوري بهذه الجماعات من جهة أخرى.. وقد وصل البعض إلى رسم خارطة جديدة لسوريا، جزء للسنة والآخر للعلويين، وساورتهم الشكوك في إمكانية السيطرة الواحدة على المنطقة السنية، فالقاعدة لن ترضى بديلاً عن غير منتجاتها، وقد تشتعل معارك بينية طاردة لأية فرصة استقرار، وكذلك الجيش الحر والإخوان المسلمون المستمدون قوتهم من الرعاية الدولية، والضامن الوحيد لاستمرار هذه الرعاية هو الالتزام بمكافحة الإرهاب وتقديم الضمانات الكافية على ما يجب الالتزام به، وسيجد الإخوان في مثل هذا الأمر حرجاً كبيراً تجاه جبهة النصرة التي طغت على الجيش الحر وتحولت إلى حاضنة لاستيعاب المنشقين وتجنيدهم لصالح الإرهاب.. وصلت التحليلات إلى مرحلة العقم خاصة عندما يصر البعض على رسم نهاية للنظام السوري ترضي قطر وأدوات أمريكا كأن يقتل الرئيس ويشنق أعضاء الحكومة.. إلخ.. أما السبب فيعود إلى المواجهات الميدانية والانتصارات التي يحققها الجيش، والمفاجآت التي يوجهها في مختلف جبهات القتال، وبما يؤدي إلى إحداث عمليات إرباك واسعة للمخططات المرسومة من قبل أعداء الممانعة.
المواجهات في سوريا شكلت محكاً أو اختباراً للاتجاهات العربية ومعملاً لمعاينة صحتها من عدمه.. سقطت قناة "الجزيرة" كما سقط العديد من شيوخ التطرف الذين كنا نعتد بهم.. ولم يسلم من أذاهم داعية التسامح والسلام الدكتور محمد سعيد البوطي، ويعرف الجميع ببشاعة ما تعرض له، ويدركون أيضاً أن التكفيريين هم من ترصدوا لحبه وجماله وضاقوا به ذرعاً وحددوا له نهاية تتفق مع النهايات المؤلمة التي يسعون ويخططون لتنفيذها أينما حلوا أو رحلوا، مستندين في ذلك على فتاوى شيوخ التطرف الذين لا حدود لأهوائهم، إلا تلك المطبقة على حكام لديهم الاستعداد لعمل أي شيء في سبيل إذلال شعوبهم وإطالة أعمارهم في السلطة التي يستخدمونها للنهب والاستئثار بأموال الشعوب.
كما شاعت جملة: "الشيعة أخطر على الإسلام من اليهود والنصارى". ويرددها البعض ممن تأثروا بجهابذة التكفير بكل ثقة.. ومع أنني لا أقف موقف المتعصب أو المعادي للإنسان بسبب دينه، إلا أن العقل عند إخضاع الجملة السابقة له يؤكد أن أبناء الدين الواحد وان اختلفوا في بعض الأفكار تحكمهم قواسم مشتركة وثوابت وخصوصيات تميزهم وهو الأمر الحاصل بين الشيعة والسنة.
وإذا ما اسقطنا هذه الجملة في سياق سياسي فسيتضح الأمر ولن يجد المرء صعوبة في التعرف على طبيعة التحالفات، فاليهود المقصود بهم اسرائيل والنصارى أمريكا ومن لف لفها، ويبقى الإسلام حكراً على حلفاء اسرائيل وامريكا، ويستعينون بحق الملكية الحصرية للإسلام بشيوخ الفتوى الحصريين أيضاً الذين يظلون على استعداد للإفتاء في أي وقت وزمان وحتى في قضايا خلافية وتستحق مؤسسة توافقية للبت فيها.
دمشق أسقطت الأقنعة، وبصمودها ولو لبرهة من الزمن تمكنت من إيضاح حقيقة ما يدور.. تكرار الاعتداءات الإسرائيلية (وليست اليهودية) بمباركة بعض الحكام ومفتيهم.. تحمل الشعوب العربية نفقة وكلفة هذه الاعتداءات ودفعها عن طريق الحكام بطرق مختلفة.
انزلقت حزمة الاعترافات هذه على هيئة حقائق، ولن يكون مهماً بالنسبة لنا العداوة التي يضمرها (الزنداني) للصهيونية كما أقحمنا في متاهات الإيمان بصحة ما يبدر عنه، ولن تتمكن حماسة نقيب المعلمين (فؤاد دحابة) وهو يجمع التبرعات للنيل من سكينة الشعب السوري، ولا من إيداع بعض إيمان بعدالة – لا نتوقعها – في مفاهيمنا التي أضاءتها دمشق.
على المستوى الشخصي شعرت بسعادة بالغة عندما فاز فؤاد دحابة بعضوية البرلمان في انتخابات 2003م، وكان مبعث هذا الشعور ناجماً عن وضع العاملين في التربية والتعليم السيئ، وإمكانياتهم المالية التي لا تؤهلهم لخوض أية منافسة في ظل سطوة المعادلة القاسية: " من يمتلك المال، سيمتلك السلطة.. شعرت بالسعادة رغم أنني لم أعرفه، ولم أعرف منافسه، وظلت صورة "دحابة" عالقة في ذهني كرمزية لإمكانية الانتصار على المال والسلطة، ولا يوجد ما هو أسوأ من أن تسقط هذه الصورة وحمولتها الرمزية والمفهوم المبني على الصراع الطبقي في ساعة يحاول فيها المرء لملمة الشتات والمعركة المتناقضة والمتشعبة التي تتناهبه بدون رحمة.. ما أسوأ أن تحتشد هذه الصورة مع تيار المؤامرة على شعب سوريا الذي كنا نقرأ في صفحاته الأمل بحياة خالية من الصراع المذهبي والديني، حياة ينساب في جنباتها التنوع بانسجام، وتتحسس في خلجاتنا عروبة تتنازعها العولمة وتضع انتماءنا للجغرافيا والتاريخ في عزلة وغربة خجولة.
اللحظة الصادمة أطرافها سوريا التي تستحق الحب والسكينة والاستقرار للمضي صوب مشروعها الحديث الذي تناغم وحاجاتنا لنموذج تقدمي يحتفظ بخصوصياتنا الثقافية، وفؤاد دحابة الذي لم يسلم حتى الأطفال في المدارس من أعماله التحريضية ضد الشعب السوري واستقراره وسكينته، وذريعته الجهاد الواجب على كل مسلم ومسلمة.. ألا يشعر نقيب المعلمين اليمنيين بحاجة أطفال سوريا إلى من يسعى لإسكات الانفجارات وأصوات الرصاص من خلال المصالحة ودعاوى السلام، لا إلى من يزود المقاتلين الغرباء بالمال والسلاح لممارسة غواياتهم ونزواتهم الإجرامية داخل الأرض السورية؟
على شاشة إحدى الفضائيات العربية أفزعتني لقطات بثتها القناة عن أعمال المجاهدين، ومن ذلك تفجير منزل المختار (الشيخ) في دير الزور ومنازل أقاربه والمحسوبين عليه، بالتزامن مع صراخهم: "الله أكبر.. الله أكبر.. لبيك يا الله.. إن الله لا يأمر بالدمار ولا بالقتل، والثقافة الجهادية في التراث الاسلامي حددت مواقف صارمة تردع قتل الآمنين والشيوخ والأطفال والنساء وقطع الأشجار إلى آخر المحاذير التي تسمو بالعمل الجهادي وترتقي به وتنأى به عن الأعمال الإجرامية المخلة.
كنت في دمشق أثناء الأزمة، ولم أكن أشعر بما يهدد أمن واستقرار المدينة وأنا أتجول في شوارعها، الناس يتسوقون، والأسر تتنزه في الحدائق، والحياة تسير على إيقاع الإنسجام الجميل، وعندما أعود إلى غرفتي كنت أقلب التليفزيون وحين أستقر على قناة (الجزيرة)، أو (العربية) لا أرى غير الحرائق والموت والفجيعة فأطل من النافذة لأتأكد إن كان شيئاً قد حدث.. وكالعادة لا أجد ما يواسيني سوى إلقاء لعنة على السياسة التي أسقطت (الجزيرة) وحرفت المنابر الإعلامية العربية عن مسارها المهني.
سوق الحميدية الذي يقع في دمشق معلم من معالم المدينة الأصيلة يحتوي كل حاجة المتسوق، وينقل صورة حية عن حياة سوريا بتنوعها وجمالها، يقودك في نهايته إلى الجامع الأموي الذي يقع على مقربة من جامع السيدة رقية وضريح صلاح الدين الأيوبي والذين يشكلون نموذجاً فريداً للتنوع المحاط بالتسامح.
ريف دمشق يحتضن ضريح السيدة زينب، ومحيي الدين بن عربي، وأبا يزيد البسطامي، وقبر الأغا النصراني، كل هذه الأمكنة غدت نصعاً وأهدافاً لشهية المجاهدين المفتوحة للقتل والدمار والذين تشربوا الخصومة كمنهج نهم لا يمل من القتل، فقد أعدموا تمثال رهين المحبسين أبا العلاء المعري في معرة النعمان، ونبشوا قبر الصحابي حجر بن عدي.. لا فرق بينهم وبين التتار إلا في أن الأخيرين لم يتنبهوا للموتى ولم يكونوا مسنودين بفتاوى شيوخ التكفير.