لحج نيوز/كتبت:إيمان الكرود ـ الدمام -
الحجرة صغيرة وضيقة ولكنها اليوم مكتظة على غير العادة, والفضول يقود هذا المتفرج إلى وسط الغرفة حيث تحلق مجموعة من الصبية المراهقين في حلقة كبيرة يتقاذفون بأرجلهم شيئًا ما ربما هو كرة قدم أو علبة مشروبات فارغة، يزيد فضوله فيقترب ويحاول أن يخترق الجموع التي ما انفكت تتوافد إلى هذه الغرفة لعله أن يلمح ذلك الشيء الذي يتدحرج على الأرض ولا يكاد يستقر في مكان حتى ترسله قدم إلى زاوية أخرى. ومن بين الضجيج الذي يصدره أولئك الصبية يصل إلى أذنه صوت صرخات مكتومة فيحاول أن يصغي سمعه ولكن الضحكات الهستيرية التي يطلقها مجموعة المراهقين تحول دون ذلك. المتفرج يصل أخيرًا إلى حلقة المراهقين ويمد عنقه جاهدًا ليرى ذلك الشيء ولكن ما إن تقع عيناه عليه حتى يشيح بوجهه، ففي وسط الحلقة كانت امرأة شابة لا يكاد الناظر يميز عمرها قد تكون في أواخر العقد الثالث من العمر أو ربما هي في أوائل العقد الرابع تتلوى على الأرض في ألم بالغ وقد انهال عليها الحضور بالضرب والركل مستخدمين السياط ومقامع من حديد وأحزمتهم الجلدية وكأن هذا النوع من العقاب لم يشف غليلهم فيأتي أحدهم ويجرها من قدميها إلى أسفل السلم ويصطدم رأسها بدرجات السلم درجة درجة وتتلون هذه الدرجات بدم الضحية ثم أخيرًا يجيء أحد أولئك الفتية ببرميل من الماء المغلي ويسكبه عليها. غني عن الذكر أن هذه الضحية توفيت خلال أقل من ساعتين.
في
ميدان عام يلمح المتفرج مجموعة من الأشخاص يساقون سوق الأنعام إلى منصة عالية وقد أحنوا رؤوسهم وارتدوا قبعات طويلة مخروطية الشكل وتدلت من أعناقهم شعارات تندد بهم وتتهمهم بأشنع التهم وسكب على رؤوسهم الحبر الأسود. يرتقي الضحايا المنصة ويؤمرون أن يركعوا للجماهير الغفيرة وتمر الساعات الطوال وهم ما زالوا على نفس وضع الركوع. يأتي شاب صغير لا يتجاوز العشرين فيضع قدمه على ظهر أحدهم ويبتسم للجماهير الغفيرة التي تهلل له وتصفق ويأتي أحد مصوري الصحف فيلتقط له صورة في وضعه المشرف هذا!
ينتقل المتفرج إلى فناء واسع ليرى مجموعة من المراهقين والمراهقات تقود رجلًا في منتصف العمر ويأمرونه فيقف تحت أشعة الشمس المحرقة لساعات طويلة وبدل أن يخففوا عليه من عذابه ببعض من الماء البارد يسكبون عليه من وقت لآخر الماء المغلي ويغرسون في جبهته الدبابيس.
ليست هذه أحاديث تفترى ولا هي مقاطع من إحدى روايات الرعب بل هي وقائع حقيقية حدثت في القرن العشرين وما زال بعض شخوصها على قيد الحياة. ورغم أن مشاهد العذاب منتشرة في عالمنا هذا إلا أن ما يميز هذه القصص جميعًا هو أن جميع ضحاياها كانوا معلمين ومعلمات تلقوا أبشع أنواع العذاب على أيدي تلاميذهم. فبأي ذنب عذب هؤلاء المعلمون وفي أي بلاد انتهكت أعراضهم؟
حدثت جميع هذه الوقائع في بلاد الصين أيام الحكم الشيوعي بزعامة ماوتسي تونج الذي حكم البلاد بيد من حديد من عام 1949م إلى عام 1976م. وماو هذا جر على بلاده الكثير من الويلات وأحدثت سياسته المركزية دمارًا هائلًا وأدى حرصه على السلطة إلى اضطهاد ملايين من شعبه، إلا أنه في الوقت نفسه كان من الذكاء أن جعل من نفسه محبوب الجماهير ومعبود المراهقين وهنا تكمن المفارقة. ولم تستيقظ البلاد وتراجع ملفاتها السابقة إلا بعد فوات الأوان عندما توفي ماو. وقد ظهرت مؤخرًا الكثير من الكتب التي تحكي عن هذه الفترة من الزمن الغنية بالأحداث مثل كتاب ذات الوشاح الأحمر The Red Scarf Girl، وكتاب الحياة والموت في شنغهاي Life and Death in Shanghai، وكتاب ابنة الصين Daughter of China. هي كتب رويت جميعها على ألسنة شهود عيان عاصروا هذه الوقائع وكانوا في كثير من الأحيان طرفًا فيها وتتميز هذه الكتب بأن معظم كتابها كانوا في ذلك الزمن مراهقين من ذلك الجيل الذي سمي لاحقًا بالجيل الضائع The Lost Generationذلك الجيل الذي نشأ على حب وتقديس ماو منذ الصغر فأحب ماو وآمن به أيما إيمان ثم بعد ذلك استيقظ ليكتشف أنه تعرض لأحد أكبر عمليات غسيل الدماغ في التاريخ. ومن بين هذه الكتب يتميز كتاب بجعات برية Wild Swans الفائز بجائزتي NCR Book Award لعام 1992م وجائزة الكتاب البريطاني لعام 1993م والذي ترجمته إلى العربية دار الساقي، والكتاب بخلاف الكتب الأخرى لا يقتصر في سرده على فترة الحكم الشيوعي في الصين بل يتناول ثلاث فترات تاريخية على امتداد ما يقرب من القرن من خلال حياة ثلاث نساء من ثلاث أجيال مختلفة من نفس العائلة، الجدة والابنة والحفيدة التي هي مؤلفة الكتاب. ويأخذنا الكتاب في سرد قصصي إلى حياة كل واحدة من هذه الشخصيات من طفولتها المبكرة ويظل القارئ يراها تكبر أمام ناظريه يومًا بعد يوم حتى ليظنها هي البطلة الوحيدة في القصة، حتى تبدأ هذه الشخصية بالتواري تدريجيًا لتفسح المجال للشخصية الأخرى التي تليها. ويلقي الكتاب الضوء على العادات والتقاليد التي كانت منتشرة في بلاد الصين في الربع الأول من القرن الماضي والتي قد يشعر القارئ تجاهها بالكثير من الدهشة, فعلى سبيل المثال إذا كان يعاب علينا في الشرق تعدد الزوجات فإن الرجل في الصين القديمة كان يتزوج أحيانًا ما يزيد على خمسين زوجة! وإذا كانت المرأة في شرقنا تنكح لجمالها ومالها ودينها فإنها في الصين كانت تنكح لصغر قدمها! وحتى تحصل الفتاة على أقدام صغيرة كان عليها أن تخضع لعملية في منتهى الألم منذ سنواتها الأولى حيث تكسر أصابع قدميها وتلوى إلى الخلف تحت رجلها وتلف في خرقة. ولا يسمح لها بنزع الخرقة التي تلبسها ليل نهار حتى لا تعاود أقدامها النمو، وهكذا تعاني الفتاة من آلام مبرحة ما امتد بها العمر. ويتجاوز الكتاب الأعراف المنتشرة ليؤرخ بمصداقية كبيرة للأحداث التاريخية التي شهدتها الصين في تلك المرحلة، فعلى سبيل المثال تتتبع الكاتبة التي كان والداها من أهم أعضاء الحزب الشيوعي تاريخ الشيوعية منذ كانت خلايا سرية مطاردة من قبل السلطات الحاكمة في ذلك الوقت وحتى أصبحت القوة الآمرة الناهية في البلاد. وقد خصصت الكاتبة جزءًا كبيرًا من الكتاب للحديث عن الدمار الهائل الذي أحدثته الشيوعية في الأنفس والأموال والثمرات، وخصت بالذكر جيل المراهقين في الستينيات من ذلك القرن الذين ضاعت سنوات ثمينة من حياتهم خلف وهم لم ينالوا من ورائه إلا السراب. وهي ترسم صورة واضحة لذلك الجيل الذي سلب العقل والإرادة على إثر سنوات من التضليل الذي مورس عليهم من قبل الإعلام والمدرسة. وهي لا تكتفي بعرض التفاصيل الدقيقة فقط بل تغوص في الدوافع والأسباب ولا عجب في ذلك إذا علمنا أن الكاتبة نفسها كانت أحد أبناء ذلك الجيل. وهكذا لا ينتهي القارئ من الكتاب إلا وقد أخذ صورة كاملة عن بلاد ما كان يعرف عنها إلا أقل القليل. ولن أتناول في عرضي للكتاب كل ما جاء فيه بل سأقتصر على ذكر بعض الأحداث التي وقعت أثناء الحكم الشيوعي مركزة أثناء ذلك على ذلك الجيل الذي اصطلح على تسميته مؤخرًا بالجيل الضائع.
القفزة العظمى للأمام The Great Jump Forward
ها هي المدرسة تستقبل تلاميذها الذين يفدون إليها في الصباح الباكر كما جرت العادة ولكنهم اليوم لا يحملون بأيديهم الكتب والكراسات والأقلام كما هو حال التلاميذ بل يجرون وراءهم أشياء ينوءون بحملها، في داخل المدرسة. ران الصمت على الفصول التي أقفرت من مرتاديها وخلت مقاعدها من شاغليها فأين اختفى معلموها وتلاميذها؟
وهناك في مطبخ المدرسة كان قلبها النابض وكأن الحياة قد غادرت جميع أرجاء المدرسة لتستقر في هذا المطبخ الذي كان قد ازدحم بالطلاب والمعلمين بين غادٍ ورائح. وفي وسط المطبخ نصب قدر ضخم أوقدت تحته النيران الضخمة وبجواره كانت إحدى المعلمات تحرك باستمرار السائل الذي بدأ يفور ومن وقت لآخر تضيف إلى هذا السائل بعض المواد التي يناولها إياه التلاميذ والمعلمون. الجميع في حركة مستمرة لإنتاج أكبر قدر من الحديد.
إنه عام 1958م وجميع أفراد الشعب صغارًا وكبارًا قد استنفروا لإنتاج أكبر قدر من الحديد، فقد أعلن ماو أنه ينوي أن يجعل من الصين دولة صناعية كبرى تنافس كلاً من بريطانيا والولايات المتحدة. وبما أن معدن الحديد، كما اعتقد ماو، هو الأساس في كل صناعة فقد أمر أن يتضاعف إنتاج الحديد خلال عام واحد من 5.35 مليون طن إلى 10.7 مليون طن، وبدل أن يكل هذه المهمة إلى العمال المتمرسين أمر أن يساهم جميع أفراد المجتمع صغارًا وكبارًا في هذه الحملة الوطنية الكبرى لإنتاج الحديد والتي سماها القفزة العظمى للأمام. وطوال عام كامل انغمس الشعب بكل حماسة في محاولة عقيمة لإنتاج الحديد. وأشعلت الأفران الضخمة لصهر الحديد في جميع أرجاء البلاد وابتلعت هذه الأفران كل ما هو مصنوع من حديد ولم تسلم من هذه المحرقة حتى أواني الطبخ المنزلية وأصبح صنع الحديد هو الهاجس الأوحد لكل فرد في الصين من التلاميذ الصغار في المدارس إلى أكبر المسؤولين في الدولة.
وفي أثناء هذه الحملة الهوجاء تعطلت الكثير من المصالح وأهملت العديد من القطاعات الحيوية, ففي المدارس على سبيل المثال, توقفت عملية التعليم فقد كان المعلمون والطلاب في شغل شاغل عن الدرس والتحصيل بهذه المهمة العظمى، ففي كل يوم وأثناء توجههم للمدرسة كان الطلاب ينقبون عن الحديد الخردة ويجمعون منه أكبر كمية ممكنة ليسلمونه للمعلمين الذين كانوا يتناوبون فيما بينهم على تحريك الحديد في تلك الأفران الضخمة والتأكد من بقاء النار مشتعلة على مدار الساعة. ولما كانت مهمتهم تتطلب منهم قضاء الساعات الطوال بعيدًا عن منازلهم فقد أوكلوا مهمة تنظيف بيوتهم والعناية بأبنائهم إلى هؤلاء التلاميذ.
وحتى في المستشفيات التي كان من المفترض أن تكون بمنأى عن مثل هذه الترهات نصبت هذه الأفران. وللقارئ أن يتخيل منظر الأطباء والممرضين وهم يتراكضون في ردهات المستشفى مشتتين بين واجبهم تجاه مرضاهم وبين نداء تلك الأفران!
وما كادت تنتهي هذه الحملة التي منيت بالفشل الذريع حتى تفشت مجاعة شديدة في جميع أرجاء البلاد مات بسببها حوالي ثلاثين مليونًا من الصينيين الذين بلغ بهم الجوع خلال هذه السنوات العجاف أن أكلوا أبناءهم! ولا عجب في ذلك إذا علمنا أنه في تلك الفترة ترك حوالي مئة مليون فلاح أراضيهم من أجل إنتاج الحديد في بلاد تعتمد في طعامها على الإنتاج الزراعي في الدرجة الأولى.
أمي قريبة مني وأبي قريب مني ولكن أيًا منهما ليس قريبًا مثل ماو:
«كنا في بعض الأحيان ننظف المنازل التي تقع على الشارع المجاور لمدرستنا. وفي أحد هذه المنازل كان هناك شاب اعتاد أن يرمقنا بابتسامة ساخرة وهو مسترخ على كرسي من الخيزران بينما نحن منكفئون على تنظيف نوافذ منزله. ولم يكن هذا الشاب فقط لا يعرض علينا المساعدة بل كان أيضًا يسحب دراجته من الظل ويقترح علينا أن ننظفها له. وقد قال لنا مرة:«كم هومؤسف أنكم لستم (لي فنج) الحقيقي وأنه لا يوجد مصورون يلتقطون لكم صورًا تنشر في الجريدة».
ها هو عام 1964م قد أقبل وقد بدأت في المدارس حملة تحت مسمى تعلم من لي فنج Lei Feng ولي فنج هذا كما زعمت الحملة كان جنديًا شجاعًا وهب حياته لعمل الخير فكان يساعد كبار السن والمرضى والمحتاجين ويتبرع بمدخراته لضحايا الكوارث ويؤثر بطعامه رفاقه الجرحى من الجنود في المستشفيات، ولتلمس القصة عواطف الجماهير المراهقة أنهت حياة لي فنج هذا بطريقة رومانسية فجعلته يموت شابًا لم يتجاوز الثانية والعشرين. ولما كانت بطولات لي فنج المزعومة تكرر على مسامع الناشئة ليل نهار فقد أصبح لي فنج هذا هو هاجس هؤلاء التلاميذ وأصبح الاقتداء بأعماله هو هدف كل طالب فما إن يدق جرس الانصراف في المدرسة حتى ينطلق الطلاب في الشوارع بحثًا عن من يحتاج إلى المساعدة، ففي محطات القطار يتراكض الطلاب ليعرضوا على كبار السن حمل حقائبهم وفي الأيام الممطرة يقفون على ناصية الشارع بمظلاتهم في انتظار أي عابر سبيل ليعرضوا عليه مرافقته بمظلاتهم إلى وجهته، وفي المنازل يتعاون هؤلاء الطلاب فيما بينهم على كنسها وتنظيفها وكل منهم يريد أن يكون مثل لي فنج البطل الشجاع. وما إن تأكد الجميع أن حب لي فنج قد تغلغل في قلوب الطلاب حتى بدأ التركيز يتحول تدريجيًا إلى ماو فقد ظهر أن جوهر لي فنج هو محبته التي لا حدود لها وولاؤه المطلق لماو فقبل أن يقوم بأي عمل. كان لي فنج يتذكر إحدى كلمات ماو التي تلهب حماسه للعمل وتبين فجأة أن لي فنج كان يكتب مذكرات وطبعت مذكراته التي كانت تحتوي على صور لي فنج وهو يقوم بأعماله الخيرية والتي قام بتصويرها مصور الدولة الرسمي، ووزعت على تلاميذ المدارس وأصبحت بمثابة كتابهم الأخلاقي وفي كل صفحة من هذه المذكرات كان لي فنج يجدد ولاءه لزعيمه العظيم ماو فيكتب مثلًا لابد أن أدرس مؤلفات ماو، لابد أن أعير انتباهي لكلمات القائد الأعظم ماو، لابد أن أنفذ أوامر القائد الأعظم ماو، لابد أن أكون جنديًا مخلصًا للقائد الأعظم ماو. وهكذا اتضح أن حملة لي فنج هذه لم تكن إلا إحدى الحيل العديدة التي مارسها ماو وأتباعه لغرس محبته في قلوب الناشئة، تلك المحبة التي تحولت مع مرور الأيام إلى عبادة وتقديس. وقد لعبت المدارس دورًا كبيرًا في هذه المهزلة فما زالت تضخم من صورة ماو أمام هؤلاء الطلبة وتبالغ في ذكر محاسنه ومكارم أخلاقه في الوقت الذي تصور فيه الحياة قبل مجيئه للسلطة بالجحيم الذي لا يطاق حتى غدا في عيون هؤلاء الناشئة إلهًا أعظم لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فكانت المدارس تنظم من وقت لآخر مجموعة من الجلسات التي تسمى «تذكر المرارة وتأمل السعادة» فتأتي بمجموعة من الفلاحين والعمال ليتحدثوا لطلبة المدارس عن طفولتهم البائسة وعن الليالي التي قضوها وهم يتأوهون من الجوع وعن أيام الشتاء القارسة التي واجهوها بدون فردة حذاء حتى أتى ماو فأنقذهم من البؤس الذي كانوا فيه ووفر لهم الطعام والكساء والشعور بالأمان!
وليعرف التلاميذ كيف كانت حياتهم ستكون من دون القائد الأعظم ماو. كانت كافتيريا المدرسة تقدم لهم من وقت لآخر ما يسمى بوجبة المرارة bitterness meal the وهي وجبة مكونة من مجموعة من الأعشاب ذات المذاق الشنيع والتي كانوا يزعمون أنها كانت طعام الفقراء أيام حكم الكومينتانج Kuomintang قبل مجيء ماو.
وهكذا تربى ذلك الجيل على الولاء المطلق لماو، ذلك الولاء الذي سيجر فيما بعد على البلاد دمارًا هائلًا أيام الثورة الثقافية! ومن المفارقات الطريفة أن المدرسة والمعلمين الذين زرعوا حب ماو في قلوب التلاميذ كانوا هم أول من اكتوى بنيران ذلك الولاء.
الثورة الثقافية Cultural Revolution The:
الزحام في الداخل لا يطاق ودرجات الحرارة آخذة في الارتفاع والروائح الكريهة المنبعثة من دورات المياه تزيد الوضع تعقيدًا ورغم ذلك ما زال المسافرون يتوافدون على عربات القطار عند كل محطة يتوقف فيها وما زال الزحام يزداد. بعد عدة ساعات أصبح الجو خانقًا ولم يعد القطار يحتمل المزيد من المسافرين الذين أضحى الكثير منهم وقوفًا في رحلة تستغرق أكثر من يومين ولكن قد يهون العمر إلا ساعة وتهون الأرض إلا موضعًا، فالجميع هنا مستعدون لتحمل المشاق من أجل تحقيق الهدف الذي جمعهم.
لا يسع الناظر إلا أن يلاحظ أن جميع المسافرين هنا من المراهقين والمراهقات الذين لا يزيد عمر أكبرهم عن الرابعة والعشرين وجميعهم أقبلوا مرتدين زيهم العسكري ومعتمرين قبعاتهم وقد أحاطت ذراع كل واحد منهم خرقة حمراء.
بعد ساعات طويلة يصل الجميع إلى أرض الميعاد وتهيأ لهم السكنى في المدارس والجامعات والهيئات الحكومية ولكن الوضع في هذه المساكن لا يختلف عنه في القطار، والقذارة هنا قد تفوق تلك التي في القطار ولكن فليزموا الصبر فلن تمر أيام حتى تكتحل عيونهم بمرأى الحبيب.
ها قد أتى اليوم المرتقب أخيرًا وهاهم المراهقون قد احتشدوا في أحد الميادين العامة حيث سيظهر عما قريب قائدهم العظيم. بعد ساعات من الانتظار يمر موكب من السيارات الرسمية فتهب الجماهير واقفة وتشرئب الأعناق علها تظفر بنظرة من ماو الذي يطل من نافذة السيارة ويلوح للجماهير المراهقة التي تلوح له بكتابها الأحمر وتصرخ بأعلى صوتها:«يحيا القائد الأعظم ماو, تحيا الثورة الثقافية».
هذه إحدى اللحظات التاريخية في حياة حرس ماو الأحمر Mao's Red Guards وصبيته المدللين الذين كانوا قد فارقوا الأهل والديار لينعموا بنظرة من معبودهم ماو، ولكن من الحرس الأحمر؟ وما الثورة الثقافية التي يهتفون بها؟
يعتبر الحرس الأحمر أحد أهم إفرازات الثورة الثقافية فلا يذكر الحرس الأحمر إلا مقرونًا بها. وقد يوحي الاسم للقارئ بأن هذه الثورة كانت ثورة حضارية شجع خلالها البحث العلمي وروجت أثناءها الثقافة ولكن ما حدث هو العكس تمامًا فقد كانت النخبة المثقفة من كتاب وفنانين ودكاترة في الجامعات ومعلمين في المدارس هم أول من اضطهد في هذه الثورة وكانت الكتب والمكتبات هم أول من احترقوا بنيرانها.
وقد بدأت فكرة هذه الثورة تختمر في رأس ماو عندما بدأ يشتم رائحة المعارضة بين أعضاء الحزب الشيوعي وأحس بوجود مناوئين لسياسته التي أثبتت فشلها أكثر من مرة فأراد أن يتخلص من معارضيه وأن يطهر الحزب الشيوعي ممن سماهم أعداء الشعب من رأسماليين وبرجوازيين. فأطلق ما سماه بالثورة الثقافية ودعا الشعب فيها إلى الثورة على أربعة أشياء قديمة وهي: الأفكار القديمة، والحضارة القديمة، والتقاليد القديمة، والعادات القديمة. وقد كانت الفئة المراهقة من الشعب التي تربت على الإيمان بماو هي أول من استجاب لتلك الدعوة ووجد ماو في هذه الفئة من الشعب بكل ما تتميز به من روح ثورية ضالته فشجعها وآزرها وأعطاها صلاحيات غير محدودة.
وقد ألقت هذه الثورة بظلالها على التعليم في المدارس خاصة بعد أن أعلن ماو على الملأ بأنه لن يسمح بعد اليوم للبرجوازيين بالتحكم في عملية التعليم فبدأت الصحف الحزبية تشن حملة على المدارس وتعرض بالمناهج الدراسية التي زعمت أنها من وضع الطبقة البرجوازية، وتطالب بإلغاء نظام الاختبارات التي وصفته بأنه يبعث في الطلاب روح التنافس الذي هو صفة رأسمالية بغيضة. وهكذا توقف التعليم في المدارس بعد أن ألغيت جميع المناهج الدراسية. ولما لم تتوفر مناهج بديلة لتلك التي ألغيت فقد استعيض عنها بالمقالات الافتتاحية للصحف الحزبية وقراءة كلمات ماو التي جمعت فيما في بعد في كتاب أحمر يتلى آناء الليل وأطراف النهار.
وقد بدأ الحرس الأحمر بمجموعة من الطلاب في أحد المدارس الثانوية الذين اجتمعوا فيما بينهم وتعاهدوا على خدمة ماو فقام «ماو» بعد أن سمع بهم بمباركة هذه الكتيبة الأولى من الحرس الأحمر وكتب لهم رسالة شكر. وعلى إثر ذلك انتشر الحرس الأحمر في كل المدارس والجامعات وكانوا مكونين في غالبيتهم من المراهقين ونما الحرس الأحمر وأصبح خارج نطاق السيطرة وصار من القوة أن أصبحت له سلطة تضاهي سلطة القانون، فطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، وللقارئ أن يتخيل الوضع وقد أطلق لهؤلاء المراهقين العنان وصاروا القاضي والجلاد.
وكان أولُ من ذاق التعذيب على أيديهم المعلمين في المدارس الذين كانت الصحف قد بدأت تندد بهم وتتهمهم بحشو عقول الناشئة بأفكار رأسمالية تمهيدًا لعودة حكم الكومينتانج، وقد كانت تلك الفترة فترة عصيبة بالنسبة للمعلمين فاتهموا بأقسى الاتهامات وذاقوا خلالها صنوف التعذيب على يد من كانوا تلاميذ الأمس. وقد أدى هذا التعذيب الشنيع إلى مقتل العديد منهم وتسبب في البعض بإعاقات دائمة ودفع البعض الآخر الذين لم يتحملوا هذه الإهانات إلى الانتحار. وقد سيق الكثير من المعلمين إلى ما كان يسمى باجتماعات التقريع Denunciation Meetings التي هي أحد أهم مظاهر الثورة الثقافية وكانت هذه الاجتماعات تعقد بحضور جماهير غفيرة للفرجة على الضحية أو الضحايا الذين كانوا يساقون إلى هذه الاجتماعات كالأنعام وقد وضعت على رؤوسهم قبعات مخروطية الشكل طويلة وتدلت من أعناقهم شعارات تندد بهم وتتهمهم بأقذع الاتهامات وسكب على وجوههم الحبر الأسود للدلالة على الشر. وينادى المتهمون فيقفون على منصات عالية ويطلب منهم أن يحنوا رؤوسهم ويركعوا لساعات طويلة يسمعون خلالها أبشع السباب ويتحملون أثناءها الركل والضرب وصنوف الإهانة من صبية صغار في عمر أبنائهم وأحيانًا أحفادهم. ولم يكن أحد يجرؤ أن يعارض الحرس الأحمر إذ كان معلوم للجميع أنه كان يتصرف بمباركة من «ماو» نفسه الذي أوعز للشرطة بعدم التدخل بهم. ولم يكن أحيانًا لجلسات التعذيب تلك أي مبرر سوى الانتقام الشخصي من معلمين اتسموا بالصرامة مع الطلاب قبل قيام الثورة. وفي هذا السياق تذكر الكاتبة قصة إحدى معلماتها التي تعرضت للتعذيب أمام ناظريها. وقد دعا الطلاب الكاتبة نفسها لحضور فصل التعذيب هذا لأنها كانت الطالبة المفضلة لهذه المعلمة فتقول:«عندما بدأ الضرب تراجعت إلى الوراء خلف حلقة الطلاب الذين تحلقوا في دائرة في المكتب الصغير وفي وسط هذه الحلقة كانت معلمتي تركل من كل جانب وتتدحرج على الأرض في ألم وقد تشعث شعرها. وبينما كانت تصرخ راجية من الطلاب أن يتوقفوا كانوا يجيبونها ببرود ظاهر:«تتوسلين الآن، ألم تعاملينا بقسوة من قبل؟ فلتتوسلي الآن» ثم ركلوها مرة أخرى وطلبوا منها أن تركع لهم وتقول:«أرجوكم دعوني أعيش يا أيها الأسياد!» ثم نهضت وحدقت أمامها وللحظة التقت عيوننا ووجدت في عيناها الفزع واليأس والفراغ وكانت تجاهد للتنفس وقد انقلبت سحنتها إلى اللون الرمادي».
ولم يكن المعلمون هم الهدف الأوحد للحرس الأحمر إذ قد نال زملاؤهم من الطلاب نصيبهم من التعذيب والاضطهاد على أيديهم ففي أثناء الثورة الثقافية قسم الطلاب إلى حمر, وسود, ورماديين. فأما الحمر فكانوا أبناء ضباط الحزب الشيوعي البارزين وطبقة العمال والفلاحين, وأما السود فهم كل من انحدر من طبقة ملاك الأراضي وأغنياء الفلاحين أو كان والداه من طبقة النخبة المثقفة أو كانت لعائلته في الماضي صلات مع حزب الكومينتانج. وأما الرماديون فهم كل من اختلف في أمرهم ولم يبت في وضعهم من أبناء أصحاب الحرف المختلفة من بائعين وموظفي مكاتب. وكان الحمر هم الطبقة الذهبية وهم وحدهم الذي يسمح لهم بالانضمام للحرس الأحمر. وقد مارسوا على زملائهم من السود والرماديين صنوف الاضطهاد فأوكلوا لهم مهمة تنظيف دورات المياه والمراحيض ونزع الحشائش، وكان ماو قد أمر بنزع الزهور والحشائش التي عد زراعتها عادة برجوازية، وأمروهم ألا يمشوا إلا محنيي الرؤوس. وتحكي الكاتبة قصة فتاة في السابعة عشرة كانت قد صنفت سوداء فتقول:«بينما كنت في طريقي إلى المنزل شاهدت شيئًا يسقط من نافذة في الطابق الثاني لأحد المدارس. كان هناك صوت ارتطام وبدأ الناس يركضون اتجاه الصوت. ومن بين الضجيج سمعت من يقول إن هناك شخصًا قد قفز من النافذة. لقد كانت فتاة في السابعة عشرة حاولت الانتحار. قبل الثورة الثقافية كانت هذه الفتاة أحد القادة لرابطة الشباب الشيوعيين وكانت مثالًا في دراسة أعمال ماو والتعلم من لي فنج. وكانت تقوم بالعديد من الأعمال الطيبة مثل غسل ملابس رفاقها، وتنظيف دورات المياه، وتلقي محاضرات للطلاب في المدرسة عن اتباعها بإخلاص لتعاليم ماو. ولكنها فجأة صنفت «سوداء» رغم أن والدها كان موظفًا في مكتب وعضوًا في الحزب الشيوعي ولكن بعض زملائها في الفصل الذين لم يكونوا يستلطفونها وكان آباؤهم يشغلون مناصب أعلى من والدها قرروا أن يضموها للفريق الأسود. وفي الفترة المؤخرة وضعت هذه الفتاة تحت حراسة مشددة مع زملائها الآخرين من السود والرماديين، وأجبرت على نزع الحشائش من أرض الملعب.وللإمعان في إذلالها قام زملاؤها بحلق شعرها الأسود الجميل لتصبح صلعاء. في تلك الليلة كان الحمر يلقون عليها وعلى عدد آخر من الضحايا محاضرة مهينة. فما كان منها إلا أن ردت عليهم قائلة لهم إنها أكثر إخلاصًا لماو منهم. فقام الحمر بصفعها وقالوا لها إنها ليست جديرة أن تتحدث عن ماو لأنها عدوة للشعب. فركضت إلى الشرفة وألقت نفسها منها. وفي غمرة دهشتهم ورعبهم أسرع الحرس الأحمر بالفتاة إلى المستشفى وهناك لم تمت الفتاة ولكنها أصيبت بإعاقة ستلازمها مدى الحياة. وعندما شاهدتها بعد عدة أشهر كانت متكئة على عكازيها وفي عينيها أطلت نظرة شاردة.
ولم يكد الحرس الأحمر ينتهي من المعلمين وزملائهم التلاميذ حتى بدأ بكبار المسؤولين الذين كانت لهم الصولة والجولة فيما مضى والذين كان من بينهم ضباط هم من أخلص المخلصين لماو، ولكن ماو الذي لم يستطع أن يضع يده على أسماء معارضيه قرر أن يعيد بناء الحزب من جديد حتى لو أدى الأمر للتخلص من أكفأ معاونيه.
وعاش الناس خلال هذه الثورة في رعب شديد لدرجة أنه لم يكن أحد يجرؤ على التخلص من الصحف بعد قراءتها، إذ كانت الصحف تحتوي على صور ماو وبين كل بضعة أسطر كانت تظهر عبارة لماو وكانت هذه الفعلة تعد جريمة يعاقب عليها بالإعدام.
ولم تنته الثورة التي امتدت على مدار عشر سنوات إلا وقد خسرت الصين الكثير من تراثها الحضاري والتاريخي بعد أن أغار الحرس الأحمر على المنازل والمتاحف والمعابد والقصور وحطموا التحف وأحرقوا اللوحات ودمروا التماثيل باعتبارها أحد الأشياء الأربعة القديمة التي دعا ماو الشعب للثورة عليها. ولم تنته الخسارة إلى هذا الحد بل لقد خسرت الصين في تلك الفترة نسبة كبيرة من خيار شعبها من علماء وأساتذة جامعات وكتاب وفنانين وغيرهم من النخبة المثقفة وبدا للجميع أن هذه الثورة تستهدف كل من هو أعلى ذكاء من عامة الشعب.
كلما قرأت عددًا أكبر من الكتب، كلما ازددت غباء!
مع توقف الدراسة في المدارس أصبح عدد المراهقين الذين يتسكعون في الشوارع بلا هدف ويعاكسون المارة أكبر من أن يحتمل. وكحل لهذه المشكلة قرر ماو فجأة أن يرحل الغالبية العظمى من المراهقين إلى الريف ليتعلموا من العمال والمزارعين وهم الطبقة التي يحترمها ماو أيما احترام، ولكن ماذا يمكن أن يتعلم الطلاب من هؤلاء البدائيين الجهلة الذين يعيشون في بيئات تخلو من أي مظهر من مظاهر الحضارة؟ هذا ما لم يفهمه أحد خصوصًا بعد أن رفع ماو شعاره الجديد «كلما قرأت عددًا أكبر من الكتب ازددت غباء!».
وهكذا رحل أكثر من 15 مليون مراهق من المدن بعيدًا عن ذويهم في أكبر حملة تهجير في التاريخ وأرسلوا إلى مناطق بدائية لا تتوفر فيها الكهرباء فضلًا عن وسائل الحياة الكريمة. وهناك كان عليهم أن يقضوا سنوات من حياتهم بين أولئك المزارعين يعاونونهم في حراثة الأرض وزراعتها. جدير بالذكر أن هؤلاء المراهقين بطباعهم المدنية وعدم خبرتهم بشؤون الريف أصبحوا عالة على المزارعين الذين ودوا لو استطاعوا التخلص منهم.
يا بني إذا انتهت حياتي هذه النهاية فلا تؤمن بعد اليوم بالشيوعية!
ستة وثلاثون عامًا هي مدة حكم ماو شهدت خلالها البلاد وقائع هي أغرب من الخيال وعانى أثناءها الشعب من الاضطهاد وتقييد الحريات والتضليل الإعلامي الشيء الكثير، وكلها أمور ترويها لنا يونغ تشانغ في كتابها الذي يزخر بالكثير من التفاصيل ويمتلئ بالعديد من الحكايات التي تجعل من قراءة كل صفحة من صفحات الكتاب تجربة ممتعة يهفو لها القارئ بشوق. ولقد أبدعت الكاتبة في تصوير جيل المراهقين في ذلك الزمن الذين كونوا فيما بعد ما سمي بالحرس الأحمر فرسمت شخصياتهم بشفافية عالية نفذت خلالها إلى داخلهم. فوراء العنف والسادية التي كانت واجهة لهم كانت هناك نفوس مضطربة حيرى، ورغم إزهاقهم للأرواح وتعديهم على الأعراض ونهبهم للممتلكات لا يملك القارئ إلا أن يتعاطف معهم في النهاية عندما يدرك أنهم ما كانوا إلا ضحايا. ضحايا للإعلام المضلل وللمدرسة ولرجل مصاب بالنرجسية. وإذا كانت يونغ تشانغ الشابة الطموحة استطاعت أن تعوض من سنواتها الضائعة وتتغلب على واقعها فتهاجر إلى بريطانيا حيث تحصل على الدكتوراه في أحد العلوم الإنسانية، فإن غالبية عظمى من أولئك المراهقين لم يحالفهم الحظ فاستيقظوا على واقع مرير وحقيقة أمر، وقضوا باقي عمرهم يحاولون أن يعيشوا ما بقي من أيامهم. وأختم مقالي بشهادة حية من رجل كان في يوم من الأيام أحد أخلص رجال الحزب الشيوعي وأكثرهم إيمانًا بمبادئ الشيوعية، ولكن دارت الأيام دورتها ليسام سوء العذاب ويتهم أبشع التهم مع من اتهم أيام الثورة الثقافية. وهكذا انتهى به المطاف بعد حياة حافلة من الإنجازات في أحد معسكرات الاعتقال ليمارس هناك أعمال السخرة وليصاب فيما بعد بمرض عقلي يجعله يدمن المهدئات. ويستطيع القارئ أن يقرأ في كلمات هذا الرجل، الذي هو والد يونغ تشانج مؤلفة الكتاب، الإحباط والألم والحسرة. «دائمًا ما أتساءل فيما إذا كنت خائفًا من الموت أم لا. ولكني لا أعتقد أني كذلك فحياتي الآن هي أسوأ من الموت. ويبدو لي أنه لن تكون هناك أي نهاية لما أعانيه. في بعض الأحيان أشعر بالضعف فأقف إلى جانب النهر وأفكر فقط قفزة واحدة وينتهي كل شيء. ولكن سرعان ما أعود إلى رشدي وأتذكر أنني إذا مت قبل أن أبرأ فلن تعرفوا نهاية للمشاكل التي تطاردكم...منذ فترة وأنا أفكر. عانيت طفولة قاسية ومجتمعًا يزخر بالظلم ولم أنضم للشيوعيين إلا لأني كنت أحلم بمجتمع يسوده العدل. ولقد بذلت خلال تلك السنوات أفضل ما بوسعي. ولكن ما الذي استفاده الشعب من الشيوعية؟ بالنسبة لي لماذا في النهاية تسببت في الأذى لعائلتي. الناس الذين يؤمنون بالثواب والعقاب يقولون إنه إذا كان خاتمتك سيئة فلابد أن هناك ما يؤرق ضميرك. لذلك منذ مدة وأنا أفكر جديًا بما فعلته أثناء حياتي. نعم لقد أمرت بإعدام العديد من الناس ولكن هؤلاء الأشخاص كانوا قد اقترفوا من السيئات ما كان الله نفسه سوف يأمر بقتلهم بسببها. فأي ذنب اقترفته لأستحق كل هذا؟» وبعد فترة من الصمت يلتفت الأب لابنه ويقول:«إذا مت في مثل هذا الوضع يا بني فلا تؤمن بعد اليوم بالشيوعية.» أعتقد أن شهادة كهذه تغني عن مؤلفات في هذا الباب