لحج نيوز/صنعاء - (( وتنفس الأقحوان )) الديوان الثاني للشاعرة اليمنية عائشة المحرابي، وهو، كما يطيب لي أن أصفه، ديوانان بين دفتي كتاب، إذ حوى الديوان إثنتين وثلاثين قصيدة وبين كل قصيدة وأختها انبثقت قصيدة من قصائد الومضة .
وقصيدة الومضة، يرى الكثيرون أنها إنما جاءت بتأثر الأدباء العرب بالأدب الغربي، وكان قد انتقل إليه _أعني الغرب _ هذا النوع من القصائد عبر اليابان ، في حين يرى آخرون أن قصيدة البيت الواحد والبيتين عند العرب ، كانت هي أساس قصيدة الومضة في لباسها الحديث .وهي القصيدة التي تتميز بالإيجاز في عدد الكلمات وبالتكثيف في التصوير ونقل مدلولات المعاني .
الديوان لشاعرة وصفها كاتب المقدمة الدكتور إبراهيم أبو طالب بأنها (( ذات الصوت الشعري اليمني النقي في صفائه ، الواضح في تدفق مشاعره . ))
ثم قال أيضا : (( إنه صوت شعري صنع ذاته بهدوء ، واعتملت داخله كثير من التجارب والقراءات والعواطف لكي ينداح مرة واحدة بهذا القدر من صدق التجربة ونقاء العبارة ))، وأراه محقاً في كل ماذهب إليه .
ولقد أصدرت الشاعرة ديواناً قبل هذا أسمته (( سيد المساء )) ، وأرى أن القارئ لن يجد كثير فرق بين طبيعة الموضوعات الشعرية المتناولة في هذا الديوان ، وبين أخواتها في الديوان الأول، فهي تدور غالبا حول الحب والمنى والأشواق والحنين ، وما إليها من المشاعر والأحاسيس الإنسانية ، غير أنه سيلحظ ، ولاشك ، تغيرا في طبيعة اللغة المستخدمة ، وترقي مستوى الشاعرة البلاغي في التناول .
وكان د. إبراهيم أبو طالب قد ذكر أن حباً صوفيا يبرز في ثنايا الديوان ، وأجدني أشاطره الرأي هنا أيضا ، وأحسب أن هذا النوع من التصوير كان أحد أهم الصور التي ظهرت من حيث ترقي التناول، فالحب الصوفي هو ذاك الذي يذيب فيه المحب ذاته في محبوبه فيغدوان جسدين بروح واحدة ، وتراهما عين الفؤاد فلاتقوى على التمييز بينهما ، كما أن الألفاظ المطروقة في الحب الصوفي كثيرا ماتشير إلى روحانية المشاعر وسمو الأحاسيس.
وقد أشار د. إبراهيم إلى صورة واحدة من تلكم الصور ، غير أني أرى أنه لامندوحة من أجل تبيان هذا الملمح من أن نعرض لعدد آخر من هذه الصور التي تناثرت هنا وهناك بين هذه القصيدة وتلك، وهذه الومضة والأخرى .
فمن ذاك قولها :
أتبتل في محراب روحك
يورق في وريدي كسراج من نور
أتوضأ بنور عينيك
روحي بحبك جنة خضراء
فأنت خشوع تغشاني
يهمس في أذني فأراني
فأورق زهرا علويا موشوما باسمك
بل وترى التوحد في أجمل وأبدع صوره في قولها :
ألوذ بك مني ..
خذني إليك يا أنا
وتتنهد في صدري
ارتحل بين نبضاتي لن تهرب ، فأنت محاصر بي ، وأنا أسيرتك .
ومن تلكم الأجواء التي ترتقي بالمشاعر والتي تصور جمال الأحاسيس وسموها ، والتي تشير إلى جانب ديني في ثقافة الشاعرة قولها: ((يتفصد حرفي عرقاً .. ذلك حينما أكتب عنك))
ولابد أن ذلك التصوير قد أحال القارئ لتلك الصورة ، إلى صورة أخرى مشابهة أوردتها أم المؤمنين عائشة رضوان الله عليها حين راحت تصف نزول الوحى على الحبيب المصطفى (صلوات ربي وسلامه عليه ) فقالت: ((وَلَقَد ْرَأَيْتُُ يَنْزِلُ عَلَيْه ِالْوَحْيُ فِي الْيَوْم ِالشَّدِيدِالْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْه ُوَإِن َّجَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا)).
وتحيلنا صورة أخرى في قولها : ((يهمس لي وريدي أنك تجري فيه )) إلى الآية القرآنية الكريمة (( ونحن أقرب إليه من حبل الوريد )).
والشاعرة وإن توحدت مضامين موضاعاتها ، إلا أنها تحاول صادقة أن لاتكرر صورها وأخيلتها ، حتى وهي تصف ذات الإحساس، فهي تصف قساوة البعد، مثلا : فتقول مرة ..
وأكسرك لعقارب ساعات البعد.. ثم في صورة أخرى تقول : علي أكسر سيف البعد.. فالبعد يحمل في الصورة الأولى السير البطيء بتكتكات العقارب وتلهف المنتظر ، في حين أن البعد في الصورة الثاني قاطع وبتار .
ونرى مثل ذلك في قولها : ويندسُ في جِفني الأرق ، ثم في صورة أخرى ..يدُسُ تحت وسائِدي الأرق. فالأولى تصور الأرق فاعلا ولذا تراه قد اندس في الجفون ذاتها ، واتخذ لنفسه مكانا بينهما ليحرمها لذيذ النوم ، أما الثانية فتصوره مفعولاً به ولهذا فقد جاء أقل وقعا وكان مكانه تحت الوسادة ، وفرق بين أرقين اختلفت مواقع حضورهما .
عائشة شاعرة تتقن الرسم بالكلمات، وتمتلك قدرة لاتخطؤها عين القارئ ولا روحه، فهلموا بنا في رحلة مع بعض جماليات الصور المبثوثة في ثنايا قصائدها :
كُلُّ الأشياء حولي
ارتدت عباءة الشِتاء
حتى الشمس
لبِست خُيوطُها غلالا ت ثلجيةً بارِدة
إلا أنتِ يامشاعري
لازِلت ِتُحرِقينني
شوقاً إليه
وقولها :
وأنثر ُشذى همسِك
على طُرقات قلبي
وأبللها بندى الصبر
ثم :
قل لي
كيف أجدل من الصبر ضفيرة
أسلي بها الساعات في غيابك
وأتكئ على شرفة اللهفة
انتظر حضورك
فتتدلى عروش الياسمين
لقربك
ويتفتح الربيع على ضفاف قلبي
أو قولها :
وتغزل من خيوط الشمس رداء الشوق
تؤنس ليلك
تبدد غيوم أحزانك
وتضع حداً لغيابك الموجع
وما أجمل قولها :
رياحُ حبٍ أنا
أنشر البهجة بكل اتجاه
أزخر ف السماء
أرسم ُوجه الماء
وصورة أخرى :
أضيئ قناديل الفرح
أجمع الأقمار أعلقها في رموشك
وفي ثناياها ومضاتها نجد جمالا موازٍ آخر ، كقولها :
أتسلق غيمة شوق وأهطل حبا
وقولها :
اتكئ على عكاز الشوق
وأكمل مسيرة حنيني إليك
ثم :
اِسكبني كنور الفجر في قهوتك
وارتشفني كل صباح
وهكذا نرى الجمال مبثوثا هنا وهناك ، وليس أمامنا إلا أن نغترف منه ماشاءت لنا أرواحنا أن نغترف ، وأن نعب منه ماأمكن الوقت من أن نعب .
الديوان جاء في مئة وثلاثة عشر صفحة وهو من إصدارات العام الحالي 2014م ، صمم غلافه الفنان هاني أحمد المصرفي . |