بقلم/ حمدان عيسى -
إننا عندما نقيم الواقع الحاصل في وطننا فإننا نقيمه من خلال ما نجده من الأحداث والمواقف التي تخبى في تفاصيلها الكثير من المعاناة والحرمان والتعسف بحق الكثيرين من كانوا في السابق هامات جعلوا أرواحهم على أكتافهم خدمة للوطن والمواطن ...
وهنا كان لي موقف مع أحدهم، وذلك عندما شاهدته وهو يجمع قوارير المياه المعدنية الفارغة .. وسألته لماذا تجمع القوارير ..؟ رد عليا بصوت خافت يخبى في طياته الكثير والكثير من المعاناة والقهر .. "من أجل اتعشى يا أبني.." !! وقصده أنه يجمع القوارير الفارغة ليأخذها إلى إحدى البوافي وبقيمتها يحصل على وجبة عشاء.
وعندما سمعت رده أحسست قمة المعاناة والقهر الذي يعيشه .. فلعنت الزمن الذي يقهر ويهين الرجال مثل هؤلاء ... وأخذت عهداً على نفسي بأن أكتب قصته المتواضعة وانشرها .. كأني ارمي حجر في مياه راكدة..
فقررت الجلوس معه كي يروي لي قصته. فوجدت في تفاصيلها قصة إنسان مناضل قدم للوطن الكثير ولم يجد سوى التهميش والاقصاء .. أنه إنسان ظل طوال العقود الماضية يكافح من أجل البقاء والعيش بكرامة بعدما تم تجريده من كافه حقوقه المشروعة من قبل نظام المخلوع صالح، وظل منذ عام 1978يطالب بكافة الوسائل المتاحة لإنصافه وإعادة حقوقه المصادرة إلا أنه لم يجد الإنصاف في زمن ألا أنصاف ...!!
وقبل أن اروي قصته فكرت كثيراً بالأسلوب الذي استطيع من خلاله أن أقدم هذا المناضل ... وبعد تفكير طويل .. قررت أن اجعله هو من يسرد قصته ..
تفضل أيها المناضل احكي قصتك:
أنا النقيب "درهم علي عثمان القدسي"، من مواليد 1944م في قدس – المواسط – تعز. متزوج ولي تسعة أولاد "ستة" ذكور و"ثلاث" إناث.. تلقيت تعليمي الأول في كتاتيب القرية التي عشت فيها طفولتي وبعدها انتقلت مع والدي للعيش في عدن أثناء الاستعمار البريطاني وتحديداً عام 1952.
وقبل ثورة سبتمبر الخالدة عدت إلى شمال الوطن والتحقت بقوات الصاعقة وبعدها انتقلت إلى قوات المظلات عام 1961م وأول ترقية حصلت عليها "مساعد أول" في قعطبة عام 1971م.
كما أنه كان له دور كبير أثناء تولي الحكم القائد الشهيد إبراهيم الحمدي وتحديداً عام 1975م، حيث قال النقيب "درهم" أثناء حكم الحمدي تم ترقيتي إلى "ملازم أول"، ثم ترقيتي إلى رتبة "نقيب" برقم عسكري "8180"، حيث توليت العديد من المهام العسكرية أهمها: قيادة معسكر في السواد بصنعاء، وبعدها توليت قيادة كتيبة مظلات في المناطق الوسطى بقعطبة، كما توليت قيادة كتيبة عسكرية لايقاف الفوضى والتخريب الحاصل من الجبهة الوطنية أثناء فترة الشهيد الحمدي. وبعد الجريمة المشومة باغتيال الشهيد الحمدي تم نقلي في نوفمبر 1977م من قبل الرائد عبد الله عبد العالم قائد قوات المظلات لقيادة قوات المظلات في صنعاء.
مواصلاً كلامه .. وبعد أحداث الحجرية عام 1978م ونفي قسراً قائد قوات المظلات الرائد عبد العالم سلمت نفسي إلى قوات المظلات، حيث تم اعتقالي أنا وثلاثة اخرون لمدة ثلاث أشهر في الأمن الوطني "سابقا"، وذلك باتهامي بالمشاركة في قتل مشائخ الحجرية إلا أنه صدر لي العفو أنا وزملائي من المخلوع علي صالح...
كما أنه كان له دور في التنظيم الناصري وحركة 15 اكتوبر. فقد قال: وبعد خروجي من المعتقل في الأمن الوطني التحقت رسمياً إلى التنظيم الناصري مشاركاً في تفجير حركة 15 أكتوبر 1978م الناصرية بقيادة القائد الشهيد عيسى محمد سيف. وقد كانت مهمتي في الحركة السيطرة العسكرية على الاذاعة والتلفزيون.. إلا أن الحركة لم يكتب لها النجاح، حيث تم اعتقالي وتعذيبي أنا ومجموعة كبيرة في قصر البشائر وبرغم أنه تم الافراح عن اكثر من ستين ممن تم اعتقالهم من الناصريين إلا أني لم اكن من ضمنهم، حيث تم اعتقالي لمدة ثلاث سنوات وخرجت عام 1982م بعد مصادرة رتبتي العسكرية وكل الوثائق التي تربطني بانتمائي للمؤسسة العسكرية.
نعم أنها مأساة حقيقة تبين إلى أي مدى وصل إليه الاستبداد والظلم لمن كانوا يوما ما يقودن الوطن إلى المشروع الحضاري ... فقد خرج المناضل الوطني "درهم" من المعتقل بحثاً عن حقوقه التي تم تجريده أيها في لمحة البصر وكأنه لا قيمة له .. ولا وجود له ...
فبعد خروجه قال "درهم" تم اللجوء إلى الرائد "عبدالله محمد سيف الخامري" الذي تولى مهمة قيادة قوات المظلات بعد نفي الرائد "عبد العالم" من أجل إعطائي بدل فاقد لوثائقي التي تم مصادرتها مني والتي تثبت انتسابي إلى قوات المظلات، بالإضافة إلى إعادتي لمزاوله عملي العسكري في المظلات إلا أنه الرائد "الخامري" قال لي بصريح العبارة "أن الرئيس أمر بنفي جميع من شارك في حركة 15 أكتوبر من مهامهم العسكرية ...". إلا أنه لم ييأس وظل مستمراً في المطالبة بوزارة الدفاع منذ 1985م لإعطائه ما يثبت انتمائه إلى المؤسسة العسكرية والافراج عن رواتبه ومستحقاته التي تم توقيفها حتى هذه اللحظة..
وبالرغم من أنه أضطر إلى العمل كسائق مع المقاول المرحوم عبد الملك الاصبحي منذ 1986 وحتى 1999م إلا أنه استمر في المطالبة بحقوقه في ازقه الجهات المسئولة حتى وصل إلى باب مسدود لا يوجد به أي انصاف أو إعادة المظالم والحقوق المنتهكة.. وخرج بعد وفاء "المقاول الاصبحي" ليعمل كسائق في عدة جهات حتى بدء الثورة..
الثورة الشبابية والتي كان "درهم" من أوائل الذين نزلوا إلى ساحة التغيير بصنعاء مطالباً بإسقاط نظام الأسرة ومراكز النفوذ.. فقد قال: "إن الثورة كانت الأمل الأخير لي من أجل انقاذ الوطن وإعادة حقوقي المسلوبة من العصابات التي اغتصبت الوطن.. وأن الوقت قد حان لإنصافي وانصاف الكثيرين الذين كانوا مستهدفين في سياسات الاقصاء والنفي من قبل نظام المخلوع..".
وقد تبشر بالخير أنه تم البدء بإعادة الحقوق للعسكرين وتعويضهم في المناطق الجنوبية وأن دوره سيأتي قريباً إلا أن دوره طال برغم أنه قدم ملفه إلى التنظيم الناصري باعتباره أحد أعضائه والذي اكتفى التنظيم في مطالبته للرئيس هادي من خلال بياناته الصادرة عن لجنته المركزية بإعادة أعضاء التنظيم المبعدين من وظائفهم العسكرية والمدنية لأسباب سياسية بعد حركة 15 أكتوبر 1978م وتعويضهم عما لحقهم من أضرار مادية ومعنوية، واحتساب استحقاقهم للترقيات والدرجات بأثر رجعي، وذلك اسوة بنظرائهم من القوى السياسية الأخرى إلا أن هذه المطالبات مازالت غير مطبقة في الواقع ...
وهنا لم يتبقى للنقيب "درهم" سوى الانتظار على أمل ان يعود إلى المؤسسة العسكرية وتعويضه عما لحق به من أضرار مادية ومعنوية .... نعم لم يتبقى له سوى الصبر برغم أن الجوع والحرمان يعتصر ما تبقى منه بعد إن باع كل ما يملك من أجل أن يستر أسرته التي لا يوجد عاهل لها غيره ... نعم لم يبقى له سوى الصبر والانتظار برغم أنه يعيش في لوكندة يدفع يومياً 200 ريال كي يجد مكان يطرح بدنه بعد تعب وارهاق وهو يجمع قوارير المياه والتي بقيمتها يسد جوعه ...
فهل يا ترى سيجد المناضل الناصري "درهم علي عثمان" الانصاف ..؟ أم أن الوضع والوقت مازال لا يسمح ... ومازالت كلمة "الانصاف" غير موجودة في قاموس النظام التوافقي...؟