. - بقطع النظر عمن يتحمل المسؤولية المباشرة لما يجري، هل هي السلطة، أم بعض فصائل المعارضة، فإن الفوضى التي بدأت تتسع جنوب اليمن لا تخدم البلاد بأي صورة من الصور، بل إنها لعبة مرتبطة بدوائر خارجية سواء وعى بذلك مرتكبو التفجيرات والمتظاهرون ومثيرو الشغب أم لم يعوا..
لقد اخترق الاستعمار القديم والحديث بلداننا من خلال اللعب على خلافاتنا وعجزنا عن إدارة الحوار بعيدا عن السلاح والقتل والاعتقال العشوائي، وما يجري في العراق دليل بالغ التأثير والحجة على أن اللعبة الخارجية لن تُحقق لنا شيئا، سواء أكنّا في المعارضة أم في السلطة.
الاحتلال والأطراف المتآمرة معه حركت لعبة الطائفية وغذتها عبر استثارة الماضي واللعب على تناقضاته ومعاركه، وفعلا رفع العراقيون السلاح في وجه بعض وارتُكبت مجازر فظيعة تحت شعار الدفاع عن المذهب، والمذهب منها براء..
إنها خدمت الاحتلال فقط وأعطته مبررات إضافية للغزو وساعدته على ربح الوقت في صراعه مع قوى التحرر الوطني العراقية، واللعبة جرى تطبيقها على الفلسطينيين الذين تصارعوا على السلطة وتقاتلوا وركب كل فريق منهم ركاب جهة دولية وصار يُنفّذ أجنداتها حتى وصلنا إلى حالة من التشرذم عجز خلالها المتحاورون أن يفعلوا شيئا، وصار الصراع ليس مع إسرائيل والقوى الدولية التي تُساندها، بل هو صراع بين فتح وحماس وزاد الأمر سوءا بأن انخرطت أغلب الدول العربية في اللعبة وحادت الأمة عن أهدافها في التحرير وصارت التشرذم عنوانا للحظتها الراهنة.
وإذا كُنّا نعرف أن ما يجري في السودان والصومال واليمن ومصر ولبنان من لعب على المتناقضات العرقية والإتنية التي عجزنا عن استيعابها وتحويلها إلى رافد لتدعيم المشترك الوطني والقومي، هو جزء من مؤامرة كبرى على الأمة، فإن ذلك لا يمنعنا من القول إن عجزنا كعرب عن إدارة الحوار الداخلي وتسريع التجارب الديمقراطية وتسهيل اندماج مختلف الجهات والمذاهب والقبائل في أنظمة التنمية هو الذي فتح أبواب الفوضى التي نراها هنا وهناك.
نعود إلى ما يجري في اليمن لنقول إن الزج ببعض مواطني الجنوب في أعمال الشغب أياما قليلة قبل الاحتفال بذكرى الوحدة عمل موجّه ودليل إضافي على أن هناك مؤامرة ما حتى وإن تخفّت وراء مطالب مشروعة مثل توسيع دائرة التنمية لتصل إلى مختلف المحافظات والقبائل.
وهنا فإننا ندعو هؤلاء المُغرر بهم، من مواطنين أو سياسيين ما زالوا يأملون في عودة التشطير، إلى أن يستوعبوا أنهم أداة تخريب بيد جهة لا يهمها توحّد اليمن أم انشطر إلى نصفين، لقد استغلت هذه الجهة المناخ الإيجابي الذي يعيشه اليمن من تفاعل وحوار بين السلطة والمعارضة، وهو حوار بلغ النقد والجرأة فيه منتهاهما، فضلا عن حرية الصحافة التي قل نظيرها في الوطن العربي كله.
إن المؤسسات التي انبثقت عن الديمقراطية اليمنية هي الفضاء الأجدى والأنفع الذي تُقدم فيه المعارضة آراءها ومؤاخذاتها على الخيارات الاجتماعية والتنموية التي اعتمدها النظام اليمني، وهو الفضاء الأسلم الذي تُقدّم فيه هذه المعرضة "داخل اللقاء المشترك أو خارجه" رؤيتها للحلول وتعرض فيه البرامج والخطط التي تطور الحياة السياسية والاقتصادية وتقضي على الأزمات.
أما الخروج إلى الشارع ورفع السلاح وتعمّد الإضرار بالمكاسب التي تحققت للشعب اليمني خلال سنوات الوحدة، فلا يمكن أن يُعدّ عملا مشروعا حتى وإن كانت المطالب مشروعة، ولهذا نفهم أن المُستهدف ليس سياسات النظام ولا الحكم ذاته، وإنما الوحدة الوطنية في اليمن التي دافعنا عنها في مؤسسة العرب واعتبرناها نموذجا يُحتذى لتحقيق حلم الوحدة الأشمل، وحدة الأمة وتحولها إلى قوة إقليمية ودولية مؤثّرة في العالم، وهو المدخل الوحيد لتحرير الأراضي السليبة وإقامة تنمية مستقلة ومتكافئة مع القوى الإقليمية والدولية الأخرى.
الوحدة اليمنية خط أحمر، وعلى العرب أن يقفوا بقوة مع اليمن في لجم مؤامرات التشطير والتجزئة، والنداء موجه أساسا إلى دول الجوار الخليجية التي إن قبلت بتجزئة اليمن فستجد نفسها هدفا قادما للقلاقل والمؤامرات، وقد بدأت البوادر تظهر إلى العلن مع صعود دعوات الانفصال في البحرين والسعودية والكويت، فالذين حركوا تمرّد صعدة وغذوه بالسلاح والتدريب قادرون على تغذية الانشقاقات في أي بلد عربي.
وحتى يسحب اليمن البساط من تحت أرجل المتآمرين من المهم جدا أن تسرّع دولة الوحدة جهودها لإقامة تنمية عادلة بين مختلف المحافظات وأن تكثّف العمل من أجل الحد من البطالة والأمية والفساد، وهي ملفات يعمل الرئيس علي عبد الله صالح حثيثا على تطويقها وتقديم الحلول اللازمة التي تقلّص الفجوة بين مختلف المحافظات، يستوي في ذلك الجنوب والشمال والشرق والغرب.
لقد عرض الرئيس اليمني على المعارضة الشراكة السياسية عبر تشكيل حكومة ائتلافية مقابل وقف العنف واستهداف وحدة الوطن، وهذا دليل على أن المشكلة ليست في السلطة ولا الحكم ولا الرئيس ولا العدالة الاجتماعية ولا التنمية الشاملة، وإنما في من يُحرك اللعبة من وراء الستار.
والنداء هنا موجّه إلى دول الخليج التي طالما وعدت بضخ الاستثمارات اللازمة في اليمن "وخاصة خلال مؤتمر لندن للمانحين" ومساعدته على إنجاح رهانه التنموي، وهي تعرف أن تواضع إمكانيات البلد الجار حالت دونه ودون تحقيق نتائج كبيرة في محاربة الفقر والبطالة والأمية، هذا الثالوث الذي يتربى فيه الإرهاب ويهدد ليس فقط أمن اليمن، وإنما أمن الجيران الخليجيين وأمن كل العرب.
إن النصر على الإرهاب وعلى المؤامرات الإقليمية والدولية لا يمكن أن يتم دون تضامن عربي فعلي لا يقف عند حدود الشعارات والوعود، وإنما يتعداها إلى ضخ الاستثمارات، والاستفادة من الخبرات، وانتداب العمالة وتسهيل التنقل وإشاعة مناخ نفسي يجعل المواطن العربي يشعر أن الدول الاثنتين والعشرين دولة/ أمة واحدة مزقتها الخطط الاستعمارية في القرن الماضي وحانت عودتها إلى الأصل.
*افتتاحية جريدة العرب اللندنية في عددها امس الخميس
*نقلا عن العرب اون لاين
|