|
|
|
لحج نيوز: د. نادية مصطفى - المشهد الثالث: مشهد مقاومة فلسطين في غزة، مشهد غزة تقاوم من أجل فلسطين، مشهد فلسطين تقاوم في غزة.. تعبيرات ثلاثة قد يختلف ترتيب كلماتها ولكنها تشير إلى متلازمين ثابتين، هما فلسطين والمقاومة، كما تشير إلى متغير وهو الآن غزة؛ لأن فلسطين والمقاومة من ثوابت ذاكرة الأمة عبر قرن، في حين تعددت وتوالت بؤر احتضان المقاومة وتجسيدها عبر المفاصل التاريخية من تطور قضية فلسطين - القضية المحور - في صراع الأمة العربية والإسلامية مع الصهيونية وإسرائيل، وهو صراع قومي وحضاري ضد مشروع عنصري استعماري ذي أبعاد دينية واضحة، وإن تعددت قضايا هذا الصراع الآن فستظل فلسطين (والقدس وعاؤها) في صميمه وتظل المقاومة هي روحه السارية.
إن تاريخ المشروع الصهيوني تجاه فلسطين ثم على أرضها ومنها إلى محيطها العربي والإسلامي ليبين أنه وعبر ما يزيد عن القرن اقترنت وانجدلت أنماط ثلاثة تقوي بعضها بعضا، وهي تشكل تاريخ فلسطين المعاصر (وفي قلبه تاريخ القدس) وتاريخ الأمة العربية والإسلامية.. وهذه الأمور الثلاثة هي: المساندة والتحالف بين المشروع الصهيوني ومشروع الاستعمار والهيمنة الغربية (مع توالي القوى الغربية القائدة لهذين المشروعين) من ناحية، ومن ناحية أخرى ظهور التواطؤ والتخاذل والانقسام ثم تصاعدهم التدريجي في الصفوف العربية والإسلامية خلال جهود نصرة أو مساندة أو التضامن مع الشعب الفلسطينى في مواجهة الصهيونية وإسرائيل، ومن ناحية ثالثة استمرار مقاومة الشعب الفلسطيني.
وقد تتغير العواصم وتتغير أسماء الرؤساء والقادة، وقد تتغير الأردية والأقنعة والسياقات، ولكن تظل هذه الأنماط أو النماذج التاريخية تتكرر (ولو بدرجات مختلفة) عبر ما يزيد عن القرن، مبينة أن "الصراع العربي الإسرائيلي صراع ممتد متعدد الجوانب والأبعاد، ولقد بينت الخبرة التاريخية كيف أن اجتماع النمطين الأول والثاني وتعاضدهما في ظل تعاظم دور "التدخل الخارجي" قد حوَّل "الصراع العربي الإسرائيلي من صراع أساسي ومحوري في العالم العربي والإسلامي إلى صراع بين صراعات أخرى، وذلك في نظر النظم العربية، ومن ثم، ووفق تعريف بعض النخب الحاكمة للأمن "الوطني" والمصالح الوطنية، أضحت إسرائيل - كمصدر للتهديد - تستوي، إن لم تقل، مع ما يُنظر إليه كمصادر تهديد أيضا، وخاصة إيران منذ الثورة الإيرانية الإسلامية.
ولقد وصل الأمر الآن - وفق مرآة غزة الكاشفة لسياسات النظام العربي الرسمي - إلى حد دفع البعض لاتهام جماعة "خيار السلام الإستراتيجي" والمبادرة العربية للسلام، بقيادة مصر والسعودية، بالتواطؤ الراهن وبالتوافق والتنسيق مع مخطط إسرائيل في العدوان على غزة، وهو العدوان الذي يمثل مفصلا إستراتيجيا يجسد سقوط آخر الأقنعة عن خيار السلام كخيار إستراتيجي، فإن هذا العدوان تحدى الجميع، وبلا مواربة ولا دبلوماسية ماكرة، ولكن تحدى الجميع بفجاجة ملحوظة في خطابات ليفني وباراك وأولمرت.
وفي حين عجز القادة العرب أو لم يريدوا أن يدركوا ماهية هذا المفصل في تاريخ تطور إدارة الصراع مع إسرائيل - سواء حربا أم سلما - فإن مقاومة الشعب الفلسطيني هي التي ظلت الثابت الذي لم يتوقف، وإن تنوعت أشكال المقاومة وأساليبها وأطرها، ناهيك بالطبع عن تنوع روافدها، إلا أنها ظلت قائمة ومستمرة، يعلو صوتها وإنجازها أحيانا، ويخفت أحيانا أخرى، تجد من يجتمع على نصرتها أو من يتفرق حول درجة وشكل هذه النصرة.
بالطبع لا أدعي التوقف عند تاريخ تطور المقاومة الفلسطينية وخرائط روافدها وفصائلها وتعقد علاقاتها مع النظم العربية وكيفية امتداداتها إلى العالم كله إيصالا للقضية وبحثا عن سبل الدعم والمساندة، سواء للمقاومة السلمية (بالتفاوض) أو المقاومة العسكرية.
منطلقات الاقتراب من المقاومة
ولكن تتحدد منطلقاتي عند الاقتراب من "المقاومة" في مشهد غزة (وإن كان مشهد غزة كله مقاومة) في الآتي: المقاومة العسكرية الفلسطينية - بأشكال ودرجات مختلفة - لم تختفِ أبدا من على ساحة إدارة الصراع، مهما عظمت التكلفة ومهما زادت القيود، واجتمعت على ضرورتها كل الفصائل بتنوع مرجعياتها، وحظيت باحتضان الشعب الفلسطيني في مجمله متحملا تكلفتها الغالية في الأرواح، وتعرضت لضربات عسكرية مضادة شديدة لتصفيتها، شاركت فيها أياد عدة غربية حليفة للصهيونية وكذلك عربية وفلسطينية أيضا، وكانت هذه الضربات على أرض فلسطين أو خارجها قبل وبعد إنشاء إسرائيل، ابتداء بثورة البراق (1933-1936) وصولا إلى المقاومة في غزة (2009) مرورا بمقاومة 1948، وعبر أيلول الأسود 1970، وخلال اجتياح وحصار بيروت وخروج قيادة منظمة التحرير من بيروت 1982، والضربات ضد انتفاضة الحجارة، وضد انتفاضة الأقصى وضد العمليات الاستشهادية، ثم ضد مقاومة غزة منذ ثلاث سنوات.
ولقد انجدلت هذه المفاصل الكبرى وغيرها من المفارق الفرعية مع حديث المفاوضات والتسويات.
ومن ثم لم تقتصر الضربات ضد المقاومة على ضربات القوة العسكرية فقط، ولكن سعت الحروب الدبلوماسية وحروب الأفكار إلى تقييد المقاومة وتطويعها من خلال مسلسل "المفاوضات السلمية" ومن خلال حملة الاتهام بالإرهاب والتي تطابقت منذ 2001 بصفة خاصة مع الإستراتيجية الأمريكية العالمية لما يسمى الحرب ضد الإرهاب، وكل ما اقترن بها من أدوات حروب الأفكار والقلوب والعقول لوسم كل العرب والمسلمين بالإرهاب، وليس فقط حركات المقاومة المسلحة مثل حزب الله وحماس، ولم يكن "التفاوض" سبيلا لإيجاد تسوية عادلة دائمة بقدر ما كان هدفا في حد ذاته، استطاع المشروع الصهيوني وحلفاؤه أن يوظفوه إلى جانب القوة الصلدة كمظلة لاستكمال ما لم تستكمله الذرائع العسكرية.
وهنا نستحضر مسلسل المفاوضات منذ 1978 وحتى أوسلو 1993، ثم من 1994 وحتى 2000، ثم من اندلاع انتفاضة الأقصى 2000 وحتى العدوان على غزة، ليبين لنا كيف أن هذه العقود الثلاثة شهدت تدعيم المشروع الإسرائيلي لأركانه على أرض فلسطين، وخاصة تهويد القدس وتقطيع أوصال الضفة الغربية من ناحية، كما شهدت من ناحية أخرى ترسيخ وتوظيف الانقسام الفلسطيني على أرض فلسطين بين جناح رئاسة السلطة الوطنية التي ظلت تراهن على خيار التسوية وبين جناح المقاومة.
كل ذلك في وقت فشل فيه النظام العربي في توظيف مرحلة السلام لبناء عناصر القوة الحضارية الشاملة القادرة والراغبة في مواجهة التحدي الصهيوني في وقت الحرب وفي وقت السلم على حد سواء، ومن ثم بدلا من أن يتكافل خيارا المقاومة والتفاوض على أرض فلسطين إذا بهما يتحولان إلى تضاد، برعاية أمريكية وإسرائيلية وعربية، وعلى نحو يتزايد فيه تبادل الاتهامات بين الجانبين الفلسطينيين ومن يحالف كلا منهما بأكثر مما كان يمكن أن يوجه من اتهامات لإسرائيل بالمسئولية عن تدمير اختيار السلام والتسوية.
المقاومة واستدعاء الذاكرة التاريخية
لهذا كله أضحى مشهد العدوان على غزة مشهدا فاصلا بالنسبة لخيار المقاومة بقيادة حماس
وبؤرته غزة، تلك المقاومة التي صُنِّفت كإرهاب وحوصرت من كل الجهات، وبالرغم من أن حماس وصلت للمشاركة في السلطة بانتخابات شعبية، فإن الجهود لم تهدأ لحرمانها من شرعيتها ومشروعيتها تحت العديد من المبررات والدوافع، ولا يحسُن فهم هذا المشهد إلا باستدعاء الذاكرة التاريخية.
إذن لا بد أن نستدعي هذه الذاكرة ونحن نحاول قراءة مشهد المقاومة في غزة على نحو يختبر لنا من جديد سنن الله الكونية في شئون الجهاد، حربا أو سلما، فالتسويات السلمية جهاد أيضا لا تقل أهميته عن الجهاد العسكري، ولكن أيضا لها شروطها وضوابطها وحتى لا تتحول استسلاما للمعتدي أو تواطؤا أو تآمرا على أصحاب الحقوق وأصحاب الحق في المقاومة، بل الواجب في المقاومة.
فإن هذا الاستدعاء للذاكرة التاريخية يبين أن المقاومة العسكرية في غزة ليست نبتا شيطانيا يسعى للانفصال بغزة للانفراد بالسلطة (كما يتهمه البعض)، ولكنها حلقة من مسلسل طويل من حلقات المقاومة الفلسطينية تعاقبت على قيادتها تيارات متنوعة، والآن يقود الحلقة المعاصرة منها (منذ أكثر من عقدين) التيار الإسلامي من حركة المقاومة الفلسطينية الوطنية، ولقد واجهت كل حلقة من هذه الحلقات داخل فلسطين وخارجها ضغوطا وقيودا دولية وعربية، بل فلسطينية أيضا، ولكن ما أن تتوقف، ولا أقول تنتهي، حلقة إلا وأفرزت حلقة جديدة وقيادة جديدة، أي وكأن "المقاومة الفلسطينية" قبل غزة ومعها تمثل تجسيدا على مستوى آخر لفكرة تجدد حلقات مقاومة الأمة برمتها أمام تعاقب التحديات الحضارية الكبرى عبر تاريخها، وهي الحلقات التي قادتها أقوام هذه الأمة (العربية، التركية، الفارسية) وبكافة صنوف الأدوات في مواجهة كافة أصناف الأعداء.
كذلك فإن هذا الاستدعاء للذاكرة التاريخية، والسياسية، والحضارية، ضروري جدا لفهم ومناقشة المقولات الذائعة التي تروجها بعض الأبواق السياسية والإعلامية والفكرية، ضد المقاومة في غزة بصفة عامة وضد حماس بصفة خاصة، ومن هذه المقولات: انفعال حماس وعاطفتها واندفاعها برفض تجديد التهدئة أشعل الحرب الإسرائيلية، توازن القوى العسكرية ليس لصالح حماس، بل حماس لا تدرك التغيير في المذهب العسكري الإسرائيلي بعد حرب لبنان في صيف 2006، حماس لا تدرك الواقع الدولي المحيط ولا تفهم قيوده أو سقفه، حماس تحركها نوازع الانفراد بالسلطة بعد أن انقلبت على رئاسة السلطة الفلسطينية وفصلت غزة عن الضفة، خيار المقاومة غير رشيد لا يقوم على حسابات إستراتيجية تقودها إلى تحقيق ما لم تحققه التسوية، ومن ثم فهو لا يجلب إلا المعاناة والمآسي الإنسانية للمدنيين، خيار مقاومة حماس ينطلق من دوافع عقدية دينية لا تساندها حسابات المصالح وسياسات القوى.. إن هذا النمط من الاتهامات يستدعي نوعين من الملاحظات:
المجموعة الأولى من الملاحظات هي أن الذين يوجهون هذه الاتهامات لحماس يتنازعهم اتجاهان متناقضان يفصحان عما وراء الاتهامات الصريحة الموجهة لحماس من اتهامات أخرى غير صريحة، وعلى رأس تلك الأخيرة أن "إسلامية" حماس وقيادتها لحركة المقاومة تمثل جهالة أو تطرفا أصوليا إسلاميا غير عقلاني يهدد استقرار المنطقة برمتها لتحالفه مع قوى إسلامية أخرى سواء سُنية (الإخوان وقوى المعارضة الإسلامية الأخرى) أو شيعية (حزب الله وإيران)، ومن ثم يجب ضربها وإنهاء وجودها ضمن خطة مواجهة تصاعد "المقاومة الإسلامية" في أرجاء "الشرق الأوسط الكبير" وليس "الشرق الأوسط الصغير" فقط.
هذان الاتجاهان هما: اتجاه محاكمة حماس كحركة مقاومة، واتجاه محاكمة حماس كحزب سياسي ذي أغلبية تشريعية، ولكل من الاتجاهين متطلباته وشروطه، فلا يمكن أن تخضع محاكمة حركة مقاومة لنفس ما تخضع له الدول ذات السيادة، ولا يمكن أن تحاكم العلاقة بين سلطة تنفيذية وسلطة تشريعية في ظل احتلال بنفس معايير محاكمة نظائرها في دولة مستقلة، وربما هنا يكمن خطأ أو خطيئة حماس في أنها، وهي حركة المقاومة ابتداء، قد قبلت دخول اللعبة السياسية بكل مشاكلها، وهو ما حذرتها منه عديد من الاتجاهات العروبية والإسلامية في حينه، ومما لا شك فيه أن هذه الازدواجية في الصفة هي التي وظفتها إسرائيل لزيادة الغربة بين الفصيلين، ناهيك بالطبع عن أخطاء الجميع وخطاياهم من الوقوع في أسر اللعبة الإسرائيلية - المدعومة دوليا وعربيا - أي اللعبة التي جسدتها شروط خارطة الطريق، وهي الشروط التي أدخلت السلطة الفلسطينية على أرض محتلة في دوامة ودهاليز الانتخابات والديمقراطية، مما خلق وضعا متناقضا في حد ذاته، ووظفت إسرائيل هذا الوضع توظيفا كبيرا في مسلسل اتهام مقاومة غزة بالإرهاب، وتبرير عدوانها على غزة بأنه دفاع عن النفس، متناسية بفجاجة وعن قصد، أنها تواجه مقاومة على أرض محتلة.
والمجموعة الثانية من الملاحظات هي أن هذه المقولات وغيرها تبدو في نظر من يعي أهمية الذاكرة الحضارية مقولات بلا جذور وبلا قواعد، إلا أنها ولدت من بنان اللحظة الآنية؛ اللحظة التي يعجز فيها الخائفون المضطربون أمام قوة إسرائيل وحلفائها على الاعتراف بأن مشهد التسوية السياسية عبر ثلاثة عقود لم يُنتج إلا أوهام السلام، حيث لم تتحقق المطالب الأساسية العربية والفلسطينية، وهذه اللحظة الآنية هي أيضا اللحظة التي تحكمها حسابات خوف الأنظمة على نفسها متذرعة في نفس الوقت بالخوف على أوهام الاستقرار والتنمية وأرواح الشعوب، كما لو أن هناك تنمية بالفعل، وكما لو أن الشعوب كلها ترفل في الخير والحرية، وكما لو أن هذه النظم لا تضحي بأرواح شعوبها بطريقة أو بأخرى، ومن ثم فإن الاستقرار محل الحديث والسلام محل الأوهام هو للحفاظ على الأوضاع القائمة، وهذه الأوضاع تستدعي كل أنماط المقاومة ضدها، كما استدعت المقاومة في غزة الخروج على ما يسمى التهدئة والحصار، لأنهما لم يعودا إلا سبيل التصفية، ولا قبول لتصفية القضية مهما كان الثمن.
إن نمط التفكير في قضايا الشعوب من جانب حركات المقاومة ذات الجذور الحضارية ليس هو نمط التفكير من جانب الحكومات والنظم عديمة الرؤية الإستراتيجية الحضارية وعديمة القدرة الحضارية وعديمة الفعل بإرادة حضارية، ذلك الفعل الذى يتطلب نمطا آخر من الحسابات ونمطا آخر من مدخلات وعناصر المقاومة، لا تقدر عليه حسابات المصلحة الضيقة البراجماتية النفعية والمقصورة على فئات حاكمة متسلطة لا تترجم إرادة ومصالح الشعوب، بل تساهم في تحقيق أهداف مشروعات الهيمنة على المنطقة.
وعلى ضوء المنطلقات الكلية المشار إليها عاليا فإن المستوى الثاني من قراءتي لمشهد مقاومة فلسطين في غزة يقوم على عرض أبعاد المقولة التالية:
إن خيار حماس قام على حسابات، وحركته دوافع وسعي إلى أهداف دون تقيد بالنمط التقليدي الذائع من حسابات المكسب والخسارة، كما استند إلى رؤية واضحة عن الإطار الدولي والعربي والأهداف الإسرائيلية، وحالة الصف الفلسطيني.
إن مناقشة هذه المقولة تقدم نموذجا على حسابات لمصالح إستراتيجية تقوم على رؤية حضارية، وهي وإن انطلقت من العقيدة والإيمان وإن استدعت الذاكرة الحضارية وراهنت على مساندة شعوب الأمة، فإنها تقوم أيضا على حسابات للمصالح وعلى تفكير إستراتيجي، فذلك الأخير لا يتحقق فقط بالحسابات المادية الواقعية المفرطة، التي تُغلِّب على ما هو ذائع ومهيمن، ولكن تستدعي عناصر أخرى من القوة المشكِّلة لإرادة الفعل الحضاري؛ لا يعيها أو يرفض الإيمان بها من وجهوا الاتهامات للمقاومة.
ومن ثم إذا كان البعض قد وصف خطابي خالد مشعل وخطابي هنية (حتى قبل وقف النار الإسرائيلية) بأنهما موضوع إنشاء ومقال حماسي لا يقوم على حسابات عقلانية، أو أنهما مليئان بالغيبيات و"الدروشة"، وذلك إشارة إلى ما تضمنته هذه الخطب من آيات الجهاد والصمود ونصر الله للمؤمنين، وإشارة أيضا إلى لغة التفاؤل وتوقع النصر التي غلبت على الخطابات بالرغم من اعتراف القائديْن بوحشية الآلة العسكرية الإسرائيلية، وبالرغم من وعيهما بضخامة المأساة الإنسانية والدمار الذي حاق بأهل غزة وبنيتها التحتية، فإنه يمكن في المقابل التوقف عند بعض الأمور الشارحة للمقولة السابق طرحها عن خيار وحسابات حماس، وهي أمور تعيد تعريف مفاهيم النصر والهزيمة، المكسب والخسارة من منظور إنساني قيمي حضاري على نحو يستدعي الإنسان والشعوب والأمم وقيم الحرية والعدالة وحق تقرير المصير ومقاومة الظلم والاستبداد، وعلى نحو يتجاوز أيضا حدود الدول وتوازنات النظم والقوى التقليدية، ولكن دون إغفال حقائق وقيود هذه النظم والقوى.
فإن حماس انطلاقا من مرجعية وعقيدة إيمانية ولكن في ظل وعي بما وصلت إليه القيود الدولية على شرعيتها وما وصل إليه التحالف الإسرائيلي الأمريكي الأوربي، وما وصل إليه هوان القضية على النظم العربية، وما وصل إليه توظيف إسرائيل لأسباب الفرقة بين فصيل التسوية وفصيل المقاومة الفلسطينية، فإن حماس على ضوء ذلك كله اختارت قلب المائدة لكسر الحلقة المفرغة التي دخلت إليها القضية على نحو أضحى يهدد بتصفيتها، ابتداء من تصفية حماس والمقاومة، بل روح المقاومة ذاتها، أي على نحو يهدد بتحقيق أهداف الخطة الإستراتيجية الإسرائيلية ثلاثية الأبعاد: ضرب العقيدة التي تستند إليها المقاومة، قطع أواصر مساندتها إقليميا، تفكيك النسيج الاجتماعي الذي يحتويها ويمثل قاعدة بنيتها الأساسية وبنية حركة المقاومة بصفة عامة.. فإلى أين كان تجديد التهدئة سيقود في ظل استمرار الحصار؟ ألم يكن واضحا جليا وفق العديد من المؤشرات أن إسرائيل لا بد أن توجه ضربة عسكرية لغزة لن يحول دونها قبول المقاومة تجديد التهدئة؟ وهل كانت إسرائيل طوال ستة أشهر قد احترمت هذه التهدئة ابتداء؟ ألم تظل إسرائيل تردد مقولات الإرهاب التي تسم المقاومة الإسلامية بصفة خاصة؟ ألم تعلن إسرائيل صراحة أن ثمن التفاوض مع سوريا هو أن تتخلى عن مساندتها لحزب الله وحماس؟ ألم تكن القرصنة في جنوب البحر الأحمر ذريعة لتحريك عسكري دولي يهدف أساسا إلى مراقبة ما يسمى خطوط تهريب السلاح من إيران؟
بعبارة أخرى، اختارت حماس قلب المائدة على نحو يصيب بالاضطراب عناصر خطة إسرائيل في تصفية المقاومة.
علامات مضيئة في طريق المقاومة
إن قراءة مشهد المقاومة في غزة من خلال منظار آخر غير منظار من وجهوا الاتهام وتخاذلوا عن النصرة لا بد أن يسجل مجموعة من العلامات المضيئة، والتي أعتبرها مؤشرات على مصداقية حسابات حماس، ومؤشرات على صمود المقاومة، ومن ثم مؤشرات على عدم هزيمتها؛ بمعنى القدرة على تحدي وكشف الخطة الإسرائيلية، وهذه المؤشرات تجلت خلال الأسابيع الثلاثة من الحرب العدوانية على شعب غزة وعلى فصائل المقاومة، كما تجلت تداعياتها خلال الحديث عن "ما بعد الحرب"، سواء قبل وقف إطلاق النار، أو خلال مشهد قمة الكويت.
ويمكن إيجاز هذه العلامات في مجموعات أربع، والتي بقدر ما تمثل علامات مضيئة على مصداقية حسابات الصمود، فهي أيضا تمثل مرآة كاشفة عن عورات سابقة وداعية لتفكير إستراتيجي حضاري جديد، وهذه العلامات هي:
1- الكشف عن كيف أن قضية فلسطين ما زالت قائمة في وجدان وعقول الشعوب العربية والإسلامية وكذلك شعوب العالم، وكيف أنها في حاجة دائمة للاستدعاء والاستحضار وحفز المساندة لها، سواء الإنسانية أو السياسية، وكيف أن تآكل مساندة النظم العربية المستسلمة أمام ضغوط المشروع الصهيوني يقابله، بل يدينه تيار من المساندة الشعبية والمدنية، فإن مشهد استمرار المظاهرات الشعبية واجتماعات وبيانات الجماعات الحقوقية المدنية يحتاج إلى رصد منظم ومتراكم ليبرز حجم هذه المساندة وأبعادها، وكيف أعادت الشعوب، ورغم أنف جميع النظم (معتدلة أو ممانعة، عربية أو غربية)، إلى الصدارة قضية فلسطين وقضية المقاومة من أجلها، عسكريا أو سلميا.
إذن كيف يجب استثمار هذا الزخم الجديد من أجل دعم المساندة الشعبية والمدنية لقضية فلسطين ولخيار المقاومة من أجل تسوية سياسية عادلة وليس تسوية في ظل شروط الاستسلام لإسرائيل؟ وكيف يجب استثمار هذا الزخم الجديد لجعل خروج شعوب الأمة من أجل فلسطين والمقاومة في غزة خروجا لاستنهاض الأمة ومقاومتها ضد كل صور الاستبداد والفساد والعدوان والتدخل الخارجي.
2- كشف عنصرية المشروع الإسرائيلي واستهداف تصفية الشعب الفلسطيني واستئصاله، وعلى نحو يزيد من كشف وتأكيد التوجهات نحو خيار إسرائيل "الدولة اليهودية" بمفردها على أرض فلسطين التاريخية، فإذا كانت مقولة "فلسطين أرض بلا شعب" تمثل أساسا من أسس المشروع الاستيطاني الصهيوني، وإذا كان مسلسل مذابح وحروب الآلة العسكرية الإسرائيلية قد أثبت هذا مرارا وتكرارا، ابتداء من دير ياسين إلى صبرا وشتيلا وغيرها، فإن مشهد الحرب العدوانية على غزة قدم عملة ذات وجهين: تأكيد هذا الوجه العنصري الإسرائيلي من ناحية، وتأكيد استمرار إيمان وتلاحم وصمود أهل غزة وأهل فلسطين جميعهم من ناحية أخرى، ذلك لأن المقاومة ليست حماس والفصائل الأخرى فقط.
والدلائل على الوجه الأول واضحة جلية وعديدة: ضرب المساجد، قتل مدنيين عزل يرفعون أعلاما بيضاء، ضرب المدارس ومقار الإغاثة الدولية التي يحتمي بها المدنيين، استخدام أسلحة ممنوعة دوليا (الفسفور، اليوارنيوم المخصب)، قصف عشوائي ولكن مقصود للأحياء السكنية، اصطفاف الرأي العام الإسرائيلي والشارع الإسرائيلي وراء الحرب على غزة وعلى نحو أعلنت معه موت ما سمي بحركة السلام الإسرائيلي.
إن هذه الدلائل الدامغة والواضحة، ومهما كانت مبررات إسرائيل لها ومحاولات التفافها عليها أمام الرأي العام العالمي، تبين أن عقيدة المقاومة وروحها وكذلك النسيج الاجتماعي للمقاومة وبنيتها النفسية هي المستهدف أيضا، وليس البنية العسكرية فقط، وذلك استنادا إلى كره وتعصب ضد الفلسطينيين ورغبة في استئصالهم بالقتل أو بالتخويف لدفعهم إلى الفرار من غزة، ولقد سُئلت ليفني عن هذا الهدف فقالت نحن لا نريد طردهم خارج غزة، ولكن عليهم أن يذهبوا إلى أماكن أخرى غير أماكن القصف، ولكن أين؟ وهي تحاصر الجميع؟ ولهذا لا غرابة أن نجد أن هذه الأدلة المتعددة والدامغة قد أثارت انتقاد الرأي العام العالمي ودفعته إلى مزيد من الاهتمام بالقضية، حتى ولو لاعتبارات إنسانية.
وكذلك فإن وضوح هذه الدلائل وتراكمها عبر ثلاثة أسابيع متصلة دفعت بعض المراقبين والمحللين للقول إن الهدف الأساسي لعدوان إسرائيل على غزة هو وأد روح المقاومة وعقيدتها في النفوس، وذلك بإشاعة الخوف والذعر واليأس أمام جبروت الآلة العسكرية الإسرائيلية، ليس بين أهل غزة فقط ولكن أهل فلسطين جميعا، بل الجوار العربي والفضاء الإسلامي كله، ولهذا لا غرابة أن نجد أصواتا عربية تتهم حماس وفصائل المقاومة الأخرى بالمسئولية عن العدوان الإسرائيلي، بل عن الدمار الذي حاق بغزة، إلا أنه في المقابل تعالت وتراكمت أصوات وجهود شعبية ومدنية وحقوقية، عربية وإسلامية وعالمية، لتجريم إسرائيل دوليا بارتكاب جرائم حرب ضد شعب محتل يقاوم الاحتلال.
وهو تجريم يحقق أهدافا أخرى غير مباشرة، بل يقوم ويستند على إبراز وتوضيح حقائق أحاطتها السياسات الإسرائيلية بالضباب عن قصد وعمد - منذ الانسحاب الأحادي وفق خطة شارون - والتي لم تكن إلا إعادة انتشار لتبرر عدوانها المستمر على غزة - حماس.
ومن أهم هذه الحقائق أن غزة أرض محتلة لها حق المقاومة وليست دولة تمارس إرهابا ضد دولة أخرى فيمكن لإسرائيل شن حرب عليها أو حصارها لتخويفها أو منعها من الحصول على السلاح تحت حجة دفاع إسرائيل عن نفسها.
الوجه الثاني للعملة هو صمود أهل غزة وتلاحمهم وأهل الضفة وعرب 48 مع مقاومة الفصائل إجهاضا لهذا الجانب من أهداف العدوان الإسرائيلي.
وتتعدد أيضا الدلائل على هذا الوجه وتتنوع على نحو يبرز كيف أن قوة الحق وعقيدة الإيمان تمثل مصدر قوة – غير ظاهرة ولكن مؤثرة وفاعلة - قد تساعد البعض (المحبوس في رؤى تقليدية) على فهم معنى الصمود وتحمل مأساته الإنسانية، وقد تقدم أيضا هذه الدلائل مرآة تنظر فيها شعوبنا لنفسها وتعرف أن هناك ثمنا للحرية والعدالة يجب ألا تقبل دفعه في مواجهة احتلال خارجي فقط، ولكن علينا تحمله ولو بأساليب وأشكال أخرى من المقاومة المدنية في مواجهة صور أخرى من الاحتلال من الداخل.
إن الدلائل على إيمان وصمود غزة، هي كالآتي: من ناحية: تلاحم أهل غزة مع كل فصائل المقاومة.
* فلم تكن حماس فقط التي تقاوم ولكن فصائل أخرى: الجهاد، والجبهة الشعبية، الجبهة الديمقراطية، وبالطبع فصائل فتح أيضا وغيرها.
** كذلك لم تكن هذه الفصائل جميعها هي فقط التي تقاوم في غزة، ولكن كان المدنيون يقاومون من خلال معاناتهم وصمودهم، وبدون اتهام (ذائع أو عام) الفصائل بمسئوليتها عما يحدث من مآسٍ إنسانية، بل بالتواجد المنظم للإغاثة، فلم تبرز في وسائل الإعلام وهي تغطي الدمار الذي أصاب أحياء غزة بزات رسمية تقود الإغاثة، ولكن كان نقل الجرحى والشهداء، والبحث عن الأنقاض، يتم بأيدي "الناس" وبكل السبل، وبسرعة وبدون خوف من قصف، كيف لهذه النفوس وهذه الأيدي أن تؤدي هذه المهام الصعبة، نفسيا وماديا، إلا إذا كان يحركها ويدفعها ما يتجاوز حدود الفهم التقليدي الضيق لمعنى المصلحة ومعنى الأمن، كذلك لم تشهد المعابر تزاحما لخروج أهل غزة نحو مصر أو غيرها هربا من العدوان، حقيقة الحصار العسكري الذي أحكمه العدوان على غزة وطوقها به قد يحول دون حدوث ذلك، إلا أنه ما كان ليمنعه ولكن كان سيصيبه على الأقل بمثل ما أصاب من صمود في بيوت وشوارع غزة.. ما أسهل الحديث عن هذا الجانب من صمود أهل غزة رغم معاناتهم وما أسهل الكتابة عنه، وسواء صدقت هذه الكتابة وهذا الحديث أم لا، فإن هذه السطور تحوي كل التحية والتقدير - ولو عن بعد - لهؤلاء الصامدين، ومهما تحدثنا عن الصمود فنحن لم نذق ويلاته ومآسيه، فعذرا إلى الله أهل غزة وأهل العرب والمسلمين في كل مكان تعانون فيه، ونحن لا نحسن إلا الكتابة عنه شرحا وتفسيرا.
ومن ناحية ثانية: الدلائل على تلاحم أهل الضفة وعرب 48 مع أهل غزة ومقاومتها، فلم تكن غزة تقاوم من أجل نفسها فقط، ولكن من أجل الشعب الفلسطيني برمته ومن أجل القضية الفلسطينية في قلب الصراع العربي الإسرائيلي، ولا يخلو بالطبع سجل عرب 48 أو سجل أهل الضفة من صور المقاومة التي سجلها التاريخ، ومن أحدثها شهداء يوم الأرض من عرب 48، وبطولة أهل جنين، وهذه وقائع وإن تركز عليها الضوء في حينها ولكنها لا تخفي صور المقاومة المستمرة الدءوبة والمنتظمة والمتراكمة، الخافتة أحيانا لأن الإعلام لا يبرزها، والظاهرة أحيانا أخرى لأنها فاقت الحدود، سواء في الضفة أو بين عرب 48 أو ما يسمى داخل الخط الأخضر، وإن كنا في حاجة لاستدعاء سجل صور هذه المقاومة أيضا، إلا أننا نستدعي هنا صور مساندة الضفة وعرب 48 لأهل غزة التي اجتمعت السلطة الفلسطينية وإسرائيل على التصدي لها، وجاء ذلك في شكل تقييد التظاهر ومنعه أحيانا في مدن الضفة، إلى عقاب إسرائيل بعض القوى السياسية المنظمة من عرب 48 لانتمائها إلى فكر عزمي بشارة ولمساندتها المقاومة في غزة، فلقد شطبت لجنة الانتخابات الإسرائيلية من قائمة الأحزاب المسموح لها بالدخول في الانتخابات الإسرائيلية القادمة، حزب التجمع الوطني الديمقراطي (ذا التوجه القومي الناصري) وأمينه د. جمال زحالقة، متهمة إياه بأنه على غرار حماس يمثل ذراعا للإرهاب الفلسطيني.
والجدير بالتنوية هنا، على سبيل المثال وليس الحصر للحالات المناظرة التي تكررت عبر ثلاثة أسابيع، أن التوجه القومي (العلماني) للمفكر والمناضل البارز عزمي بشارة وكذلك للمفكر الكبير محمد حسنين هيكل، لم يمنعهما من مساندة خيار المقاومة في غزة ومن نقد الدبلوماسية العربية والمصرية بصفة خاصة لتخاذلها في اتخاذ مواقف وممارسات قوية، كل ذلك دون إنكار تحفظاتهما على أيديولوجية حماس أو على بعض حساباتها، وهذا المثال (ويمكن حصر العديد من الحالات المناظرة التي تكررت عبر ثلاثة أسابيع على صعيد الإعلام العربي المرئي والمقروء) يوضح القاسم المشترك بين روافد فكرية وسياسية متنوعة، وهو مساندة خيار المقاومة حتى ولو كانت تقودها حماس.
ولقد جددت أحداث غزة أهمية إبراز هذا القاسم المشترك من جديد، في وقت قد يبدو فيه بنظر البعض أن التوجهات القومية لم تعد بنفس قدر مساندتها السابقة لخيار المقاومة، حيث إن القوى الإسلامية هي التي تبرز قيادتها له على الساحة، وحيث يبدو أن الاختلاف على مرجعية حماس وغيرها من فصائل المقاومة الإسلامية، يتسبب أحيانا في معارضة ليس مجرد مواقفها السياسية ولكن وجودها ذاته؛ سواء كحركة مقاومة، أو كحركة سياسية تشارك في سلطة بعد فوزها في الانتخابات، حيث اتهمها البعض (طوال العامين السابقين وخاصة منذ يونيو 2007) بالجهالة وعدم الرشادة والتعصب الأيديولوجي الإسلامي والصراع على السلطة مما يضر بالحسابات السياسية الواقعية، سواء على صعيد الداخل الفلسطيني أو تجاه الصراع مع إسرائيل.
3- كشف عورات خيار "التسوية السلمية"، أي السلام كخيار إستراتيجي التي رفعها النظام العربي الرسمي متحالفا مع القوى الغربية التي تتزايد مساندتها لإسرائيل وتتآكل مساندتها للقضية الفلسطينية.
فلقد تحول هذا الخيار إلى مظلة تابعت إسرائيل تحتها - ولما يزيد عن ثلاثة عقود - تدعيم استيطانها وتهويد فلسطين كلها وتهديد الأمن القومي العربي، بل أمن الجوار الحضاري للعرب، وذلك في وقت تآكلت فيه قدرات وإرادات "النظم العربية"، وظلت صامدة، بل تنامت بؤر للمعارضة السياسية والمقاومة الحضارية عبر أرجاء الأمة، إلا أنها لم تحقق بدورها اختراقا نوعيا لإحداث تغيير حضاري شامل، وبذا، وبعد أن بدا أن العرب في إجمالهم، وخاصة منذ ما يسمى المبادرة العربية للسلام 2002، مازالوا يسبحون في أوهام تيار "السلام".
وفي حين أن انتفاضة الأقصى التي اندلعت عام 2000 كانت استجابة لما بدا ظاهرا من فشل خيار أوسلو في تحقيق أهداف الشعب الفلسطيني، فإن العدوان على غزة يمثل مفصلا إستراتيجيا كشف وأكد أن خيار التسوية السلمية، على النحو الذي جرى عليه العرب، ليس إلا أوهاما تفرضها اختلالات ميزان القوة لصالح إسرائيل، كما يفرضها انعدام الرؤية الحضارية والإرادة الحضارية لدى النظم العربية، على نحو هدد الأمن القومي والحضاري، ومن ثم فإن العدوان على غزة دفع للصدارة من جديد خيار المقاومة الحضارية الشاملة، وليس فقط خيار المقاومة العسكرية ضد المحتل، فتلك الأخيرة - التي أضحت تتمحور فقط على أرض فلسطين والعراق - يصعب تفعيلها بدون عمق إقليمي وحضاري يمدها بمصادر الدعم والمساندة.
ولذا لا غرابة أن هستيريا الدبلوماسية التي تقودها ليفني في العواصم الأوروبية وفي واشنطن تحت قصف الآلة العسكرية الإسرائيلية لم تكن تسعى إلى مجرد تعبئة المساندة لمبررات العدوان وأهدافه الظاهرة المعلنة؛ لأنها موجودة بالفعل، ولكن كانت تسعى إلى حشد مساندة جديدة لباقي خطوات الإستراتيجية الإسرائيلية، ألا وهي قطع ما تبقى من أواصر ومصادر المساندة الإقليمية لخيار المقاومة الفلسطينية، وتعددت السبل الإسرائيلية، سواء من حيث الرعاية عن بعد أو قرب لمهزلة القمم العربية المتوالية، وكذلك إحراج بل إسقاط المبادرة المصرية، أو سواء بعقد مذكرة التفاهم أو الاتفاقية بين إسرائيل والولايات المتحدة لضمان منع تهريب الأسلحة إلى غزة، التي هي في الواقع نوع من الاحتلال العسكري الناعم عبر البحار والمحيطات والأجواء المحيطة بأراضينا، بل على أراضينا ذاتها.
4- الكشف عن إرهاصات سياسية متصلة بوضع حماس - المقاومة (ما بعد الحرب)، وذلك على ضوء دلالات القمم العربية المتضادة خلال الأسبوع الأخير من الحرب وبعد توقفها مباشرة وعلى ضوء سياسة إسرائيل.
وتمثل هذه الإرهاصات علامات على آفاق كسر الحصار السياسي على حماس وإمكانياته.
فكيف يمكن قراءة مشاركة خالد مشعل وقادة فصائل المقاومة الأخرى في قمة الدوحة في مقابل مشاركة أبو مازن في قمة الكويت بعد رفضه المشاركة إلى جانب مشعل في قمة الدوحة، وفي ظل رفض تيار برلماني وشعبي كويتي دعوة أبو مازن إلى قمة الكويت لتواطئه مع إسرائيل ضد أهله في غزة؟
كيف يمكن قراءة تحركات ليفني العصبية سعيا إلى واشنطن في آواخر أيام إدارة بوش لتوقيع مذكرة تفاهم أمريكية إسرائيلية لضمان منع تهريب السلاح إلى غزة من خلال إيران وعبر مصر؟
أليس هذا اعترافا إسرائيليا بالحاجة إلى مزيد من التقييد للقدرة العسكرية، بعد أن فشلت الآلة العسكرية في تصفية الوجود العسكري والسياسي لحماس؟
كيف نقرأ تصريحات ليفني وأولمرت عن رفض التفاوض مع حماس وعن رفض أن تدير حماس إعادة إعمار غزة؟ ألا يعني هذا أن المقاومة ما زالت موجودة، وتمثل طرفا سياسيا فاعلا في حسابات ما بعد الحرب؟
كيف نقرأ تصريحات متتالية لأردوغان داعيا خلال الحرب وما بعدها عدم محاربة شرعية حماس؛ لأنها فازت بواسطة انتخابات ديمقراطية، وداعيا أيضا إلى ضرورة إيصال صوتها إلى المحافل الدولية.
كيف نقرأ التصريحات المتبادلة بين أسامة حمدان وصائب عريقات - على صعيد الجزيرة صبيحة انعقاد قمة الكويت - حول ما بعد الحرب والعلاقة بين حماس والسلطة: فإن دعوة صائب عريقات متوسلا ومستعطفا حماس إلى العودة لوحدة الصف حتى يمكن معالجة المأساة الإنسانية تحوي اتهاما ضمنيا لها بمسئوليتها عن كل ما حدث من هذه المأساة الإنسانية، وفي المقابل أشار أسامة حمدان إلى عدم تغير خطاب أبو مازن عن انقلاب حماس على الشرعية، ومن ثم رأى أن مجرد علاج المشكلة الإنسانية ليس هو الأولوية الوحيدة ولكن يأتي إلى جانب إصلاح النظام السياسي والنظام الأمني الفلسطيني برمته، إذن كيف يجب استثمار هذه الإرهاصات ودعمها؟ وهل ستجد حماس من يستثمر معها؟ وكيف ستمثل سيناريوهات "ما بعد الحرب" ساحة لاختبار مصداقية هذه الإرهاصات بالنسبة لإمكانيات تغير موازين القوى السياسية على ضوء نتائج العدوان السياسية منها والعسكرية؟ أم ستدخل الساحة العربية والفلسطينية دائرة مفرغة جديدة مع السياسات الإسرائيلية وتلاعبها بإعادة إعمار غزة؟
المقاومة وحسابات المصالح التقليدية
وختاما للقراءة في مشهد المقاومة بمستوييه الكلي والجزئي؛ قد يتساءل البعض هل يمكن أن نعد كل ما سبق الإشارة إليه عاليا دلائل على حسن تقدير حسابات المقاومة حين رفضت الاستمرار في مهزلة ما يسمى التهدئة، وكيف يمكن أن نعدها من قبيل الدلائل على نصر أو عدم هزيمة؟
إن ما سبق شرحه لا يؤكده إلا أمران: الأمر الأول أن خيار المقاومة ضد المحتل إذا خضع لحسابات المصالح التقليدية التي تجريها الدول لن يكون خيار مقاومة بالأساس؛ لأن المفترض أن قوة الاحتلال هي الأقوى ماديا وعسكريا، وفي المقابل إذا خضع خيار المقاومة لحسابات القوى الإقليمية المحيطة، سواء المساندة أو المضادة، لن يكون أيضا خيارا للمقاومة؛ ولذا عار على من يتهم حماس – كما اتهم حزب الله - بأنها أوراق لعب في يد السياسة الإيرانية تجاه المنطقة؛ ذلك لأن إيران مصدر مساندة لخيار المقاومة، في وقت تخلت فيه النظم العربية عن هذه المساندة كما يتطلبها أصحابها وليس كما تريد أن تفرضها هذه النظم، ومن الطبيعي أن يكون للقوى الإقليمية مثل إيران حساباتها حول كيفية تحقيق مصالحها، لذا عار شديد على من يحاول الدفاع عن تآكل دور مصر في مساندة "القضية الفلسطينية" باتهام إيران بأنها مسئولة عن الاضطراب الإقليمي وباتهام حماس أنها مسئولة عن اندلاع الحرب أو أنها غير ذات شرعية (كسلطة وليس حركة مقاومة) أعطت "بانقلابها في غزة" الفرصة إسرائيل لتبرير عدوانها.
وعار شديد أيضا على من يعتقد أن أمن مصر ينحصر في حدودها تجنبا لمؤامرة جديدة مثل 1967 لجرها إلى حرب، أو أن أمن مصر يتحقق بإحكام الحصار على غزة؛ ذلك لأن أمن مصر تاريخيا لم يتحقق إلا في نطاق إقليمي أوسع من حدودها، فذلك هو دورها، بل مصيرها كأكبر دولة عربية، ولهذا فإن صمود غزة شعبا وفصائل مسلحة وتداعياته السابق شرحها هو نتاج حسابات حركات مقاومة ذات رؤية حضارية تريد هز دعائم أوضاع قائمة ظالمة وغير عادلة فرضتها كأمر واقع قوى عسكرية ودبلوماسية غاشمة.
الأمر الثاني: إن ما تحقق من صمود للمقاومة في غزة وما حازته من مساندة شعبية عربية وإسلامية وعالمية إنما هو تجديد لروح المقاومة وتنامي الإحساس بالحاجة إليها كسبيل للتخلص من الاحتلال الإسرائيلي للضفة وغزة ومن ثم لإعلان دولة فلسطين أو للتخلص من الكيان الصهيوني، وكسبيل أيضا لنهوض حضاري للأمة العربية والإسلامية.. فالمقاومة الحضارية متعددة المستويات، وكل له وظيفته ودوره وسياقه، وما أحوج الأمة كلها لشحذ وحفز طاقات "المقاومة" كلها، ولعل هذا هو الدرس الذي قدمه صمود مقاومة غزة - وندعو الله أن يدعم هذا الصمود -للشعوب العربية والإسلامية.. إننا جميعا في حاجة لمقاومة روح الانهزام واليأس والاستسلام، وذلك من خلال طرق غير تقليدية في الحسابات والتفكير والحركة.
إلا أن هذه السبل غير التقليدية للتفكير الإستراتيجي تحتاج لتضافر القدرات الفكرية والسياسية والإعلامية الرافضة للأوضاع القائمة بكل قيودها وضغوطها لتصميم خطط إستراتيجية للعمل الشعبي والمدني من أجل مقاومة حضارية شاملة، وفي قلبها مقاومة المشروع الصهيوني.
وإذا كان هذا هو دور الشعوب ودور المقاومة كما أفصح عنه مشهد غزة، فماذا عن مشهد الدبلوماسية العربية ودبلوماسية جوارها الحضاري، من تركيا وإيران، واستدعائهم للدبلوماسية الأوروبية والأمريكية؟
|
|
|
|
|
|
|
إرسل الخبر |
إطبع الخبر |
RSS |
إعجاب |
نشر |
نشر في تويتر |
|
|
| |