بقلم/ عصام القيسي -
يستطيع الكاتب الرسالي (الذي يحمل رسالة تقدمية لمجتمعه) أن يصمد في وجه كل العقبات التي تعترضه،في وجه الإغراء بأنواعه.. في وجه التهديد بألوانه في وجه التهميش بأشكاله، لكنه لا يستطيع أبداً أن يصمد في وجه القارئ / السامع الغبي.. هنا تنهار حصونه، وتتبدد قواه، ويرفع الراية البيضاء.. فالقارئ السامع الغبي هو التهديد الأكبر لهذا النوع من الكتاب والمثقفين، وإذا حدث وانقرض هذا الصنف يوماً ما كما انقرضت بعض الطيور والحيوانات فسيكون ذلك بسبب هذا النوع العضال من القراء والسامعين!والغباء _ ككل شيء _ مراتب.. أدناها ذلك الذي يسببه نقص المعرفة الضرورية.. وأوسطها ذلك الذي يسببه نقص الخبرة الضرورية.. وأعلاها ذلك الذي يجمع إلى النقصين الماضيين نقص الخلق النبيل.
فرجل الدين الذي يجهل أن رسول الله كان يمارس الاجتهاد في الدين والدنيا، هو كرجل الجغرافيا الذي يجهل أن الأرض كروية.. كلاهما تنقصه المعرفة الضرورية في مجال تخصصه وعمله.. والقارىء / السامع الذي يصعر خده للحقيقة لمجرد أن وسيلتك في تقديمها لا تعجبه، هو تماماً كالطفل الذي يكره الطبيب لمجرد أنه يؤلمه.. كلاهما تنقصه الخبرة الضرورية للحياة.. والقارىء / المستمع الذي يترصد الفرص لتشويه سمعتك وتزوير فكرتك، وينقض عليك كالثور الهائج، أو يطعنك في الظهر عند أول زلة لسان أو احتمال، لمجرد أنك لا تعجبه أو لا تتفق مع مزاجه النفسي والأيديولوجي، هو تماماً كالمرأة التي تتحين فرص النكاية بضرتها بالباطل قبل الحق.. وكلاهما ينقصه الخلق الرفيع! أما إذا اجتمعت هذه الخصال جميعاً في كائن واحدٍ _ وكثيراً ما تجتمع _ فأنت حينئذٍ أمام الجحيم نفسه!.. والجحيم عند أهل الكتاب هو منزلة بين الحياة وجهنم!.. وقد قدر لكاتب هذه السطور أن يزور الجحيم مرات كثيرة على أيدي هذه النوعية من القراء والمستمعين.. ولولا ضيق المساحة، وخشية الخروج عن السياق، لسردت لك عشرات الحكايات والمواقف الدالة على ذلك.. وإليك منها حادثتين عابرتين هما الأهون والأيسر بين ما عرفت.. للعبرة والقياس فحسب!
وردت في إحدى مقالاتي عبارة خطابية مجازية تقول إن العرب قد أهملوا العقل ولا ندري متى يعود اهتمامهم بهذه العضلة، ونشر المقال قبل سنوات في موقع الطلبة اليمنيين بالخارج، فإذا بأحد طلابنا المبتعثين هناك يعلق على هذه العبارة بسخرية متثاقفة ليقول لي: إنك حتى لا تعرف الفرق بين العقل والمخ، فالمخ هو العضلة وليس العقل أيها الجاهل!.
قلت في نفسي: ليت سيد الأدب العربي توفيق الحكيم، أو سيد الفلسفة العربية الحديثة زكي نجيب محمود، أو حتى فراس السواح كانوا هنا.. ليشهدوا بأعينهم كيف أن دارساً يمنياً على نفقة الدولة من ضرائب “الغلابة”، قد صحح لهم معلومة أساسية لم يكونوا _ برغم سعة علمهم واطلاعهم _ يعرفونها!.. المساكين كانوا يطلقون على العقل وصف “عضلة”، وأنا صدقتهم وجريت على منوالهم، دون أن نعرف جميعاً أن هناك فرقاً كبيراً بين العقل والمخ!.. تباً.. ألم يسمع مولانا هذا بشيء اسمه المجاز اللغوي؟.. ألم يألف هذا النوع من التعبيرات؟!.. لكن من أين له ذلك وكل حصيلته في العلم معلومات متناثرات حشرها حشراً في رأسه لكي يتقيأها على الورق في امتحان الثانوية العامة فيحصل على معدل “سيديه”.. وهل يختلف هؤلاء الحفاظ شيئاً عن “سيديه” الكمبيوتر؟!.
وفي إحدى المحاضرات التي ألقيت في مؤسسة ثقافية محترمة، خرج عليّ شاب منتفخ الأوداج كان يتقلقل طوال المحاضرة كدجاجة توشك أن تبيض، ليعترض بحدة على أسلوبي الساخر في الحديث.. وهو في الحقيقة أسلوب هادىء يوظف السخرية توظيفاً مدروساً لصالح الفكرة.. كما يفعل القرآن الكريم نفسه.. وكما مارسها عشرات الكتاب والمحاضرين الكبار في التاريخ الأدبي.
وفي الوقت المخصص للمداخلات والأسئلة بعد المحاضرة صعد هذا الشاب إلى المنبر ليقول كلاماً فيه كثير من الغيظ وقليل من المعنى. وكنت لحظتها أتأمل شكله في صمت، كان يرتدي زياً شعبياً على غير أناقة وتناسب بين الألوان،ويضع قارورة الماء في جيبه الخارجي المتهدل.. ولعل بقية العدة في الجيب الآخر!.. قلت في نفسي: إن هذا الأخ لا يعرف المكان المناسب لقارورة الماء!.. ولا يعرف كيف يناسب بين ألوان ثيابه.. فهل سيعرف المكان المناسب لاستخدام هذا الأسلوب التعبيري أو ذاك.. إن جهازه التذوقي في أسفل سافلين فكيف نحدثه في أعلى عليين!.. وقد قلنا مراراً إن للتربية الذوقية والجمالية دوراً كبيراً في تحديد خياراتنا واختياراتنا المادية والفكرية.. فكيف يختار فكرة متسقة جميلة من لا يستطيع أن يختار ثياباً جميلة متسقة.. إنه جهاز تفضيلي واحد في الحالتين!.
إن خطورة مثل هذا القارىء (أو السامع) العضال تكمن في أنه يرغم بعض الكتاب والمثقفين على النزول إلى مستواه.. والنزول هنا يعني _ فيما يعني _ التخلي عن اللغة الإبداعية لصالح اللغة الحرفية المتخشبة.. والتخلي عن اللغة المقننة المركزة لصالح اللغة الحراجية العشوائية.. والتخلي عن الأساليب الحية والمدروسة لصالح الأساليب التقليدية الميتة، التحول من لغة النار إلى لغة الرماد،بلغة أخرى، هذا النوع من القراء يحول الكاتب والمثقف الرسالي من برنامج للتنوير والتنمية إلى برنامج ما يطلبه المستمعون!،وما يطلبه المستمعون دائماً هو شيء يشبههم.. يشبه مستواهم الفكري والذهني والذوقي، وتلك هي القاضية، القاضية على اللغة والكاتب والمجتمع، القاضية على كل شيء!، وإلا فتخيل معي مجتمعاً أحسن كتابه ومثقفيه بمستوى أدنى مواطنيه!.
ولماذا نذهب بعيداً.. ها أنا ذا سأضطر في هذه اللحظة إلى تسويد عدد من السطور القادمة فقط لتبرير السطور التي مضت!.. لأني أدرك بحاستي السابعة أن عدداً من القراء سيعتقد أن كاتب هذه السطور يتعالى على القارىء.. و بالله أستعين فأقول: ليس عيباً أن يوجد في المجتمع أغبياء وجهلة وعديمو خبرة أو عديمو خلق حسن، فحتى المدينة الفاضلة لا تخلو من هذه الفئات.. إنما العيب أن تكون هذه الفئات حاضرة في حياتنا بكميات تجارية صالحة للتصدير!.. وأكثر منه عيباًً أن تتحول هذه الفئات عند نفسها إلى معيار للحق والباطل، والصواب والخطأ، والجمال والقبح.. وأعيب من ذلك كله أن تتحول هذه الفئات إلى معيار للكتابة والتثقيف عند بعض الكتاب والمثقفين!ولذا تسمع بعضهم يستشهد بالقول المأثور “خاطبوا الناس على قدر عقولهم” ويقصد به تخلوا عن الحقيقة المركبة وتخلوا عن الوسيلة المدروسة في توصيل الحقيقة وقدموا شيئاً يرضي الشريحة المتدنية ثقافة وذوقاً.. وهو لا يدري أن ثقافة الترضية هذه هي نوع من الغش والخيانة المهنية إذا صدر من فئتين تحديداً.. الأطباء والمثقفين! إن المثقف الذي يزيف الحقيقة ويزين الوهم ليرضي الجمهور لا يختلف حرفاً واحداً عن الطبيب الذي يكذب على مريضه ويزيف له العلاج!.. كلاهما قاتل.. والفرق بينهما هو أن الأول قاتل بالجملة والآخر قاتل بالتجزئة!.
أما الجمهور الذي لا يحتمل قراءة مقال أو استماع محاضرة دون أن تداهمه حمى القبيلة فيحيص حيصاً ويبيص بيصاً، فهو جمهور بدائي يستخدم عاطفته في الموضع الذي كان ينبغي فيه أن يستخدم عقله.. وإهدار العقل لصالح العاطفة هو إحدى سمات الإنسان العربي عامة واليمني على وجه الخصوص.. وأرى أن من المهام المقدسة للكاتب والمثقف أن يعمل على تصفية هذا النوع من الاستجابة البدائية ولو على مدى أجيال، إذن فنحن في مهمة شبه قتالية الهدف منها إرساء بعض البرتوكولات والتقاليد الثقافية اللازمة لإحداث عملية التمدين والترقي، هذا طبعاً إذا كانت مهمتنا رسالية، أما إذا كان الهدف هو تحويل هذه الجماهير إلى دواب مواصلات لأقرب مصلحة ذاتية فأسلوب الترضية والتزوير هو الأفضل!.
الجمهورية