لحج نيوز/بقلم:بدرية البشر -
لو عاد الأمر لمزاجي الشخصي في ما يخص الـ «بلاكبيري» لقلت إنني لا أحبه، ولا أشجع على استخدامه، خصوصاً وأنا أرى جيوش المراهقين والأطفال وقد وقعوا في حمى استهلاكه المجاني الفارغ ، فلا شيء يمنع مراهقينا ولا أطفالنا من استخدامه سوى عدم ملاءمة سعره، وليس الحاجة إليه ومناسبة العمر لهذا الاستخدام. لهذا من اليسير أن ترى طفلاً في السادسة يمتلك «بلاك بيري» وينشغل به عن واقعه وكأنه في عالم آخر. ويمكن لمراهق في الخامسة عشرة من عمره أن يقود سيارة من دون رخصة، ويرد على الرسائل العاجلة في الـ «بلاكبيري»، التي مفادها «وش أخبارك؟» معرضاً نفسه والآخرين للخطر.
ليس المراهقون والأطفال وحدهم من يستهلك خدمات الـ«بلاكبيري»، فالرجال والنساء من الموظفين ورجال الأعمال والصحافيين أيضاً وقعوا في أسره سريعاً، لكننا مثل معظم مجتمعات الاستهلاك غير الذكية لم تقدم لنا مثل هذه التقنية سوى تكريس نمط الاستهلاك الرخيص، فجل استخدامات التقنية المتفوقة لدينا هي لتبادل النكت والإشاعات والنميمة التي تعج بالأمراض النفسية والاجتماعية. وبدلاً من أن تقدم لنا هذه الأجهزة مزاولة الخدمات الذكية التي تختصر الوقت، وتوفر المعرفة، وتعمّق الوعي، فإنها تسطحنا وتشوّهنا، وتكرس أخطاءنا ولا تساعدنا على التخلص منها. لكن هل هذا كله يمكن أن يخلق تبريرات كافية لقرارات المنع التي وقفت في وجه خدمة التخاطب عبر الـ«بلاكبيري» التي يسفر حجبها عن تحويله هاتفاً محمولاً عادياً، هل تبرر أخطاؤنا في استخدام التقنية أن يصف كتاب الرأي مع وقف هذه الخدمة؟ وهل سيكون موقفنا أسهل لأن كثيراً منا ليسوا من هواة هذه التقنية الشبابية السريعة؟ وماذا لو اتخذ الأمر طابعاً أكثر جدية وتحولت القضية لقضية أمن وطني تتهمش كل القيم أمامها؟ وهل معرفتنا بأن دولة مثل الامارات علقت هذه الخدمة مبرر لشعورنا بأن تعليقها أيضاً في السعودية من العدالة، بحيث تتقدم مصلحة الوطن على قيمة حرية الاختيار ومسؤولية الفعل؟ هل يمكن أن نتجاهل واقع ٧٠٠ ألف مستهلك في السعودية لهذه الخدمة دفعوا ثمناً لهذه الأجهزة والخدمة طول العام، وحين نقول إن عددهم ٧٠٠ ألف مستهلك، فهذا مجرد رقم لمجتمع سيصبح أكبر في الأعوام المقبلة. مجتمع كبير من الشباب يؤمن، خصوصاً في هذه السن، بأن حريته هي مقام لا يراهن عليه ولن يسمح بأن تسلب منه تحت أي غطاء، وأن تفرض الوصاية عليه مهما كانت الحجج، خصوصاً أن هذه الحجج يمكن اختبار هشاشتها بمجرد تجاوزه لحدود بلاده الجغرافية ليضاف الـ«بلاكبيري» إلى قائمة الممنوعات التي هو محروم منها، فيتكرس لديه الشعور أنه محروم على الدوام من حقه بأن يكون راشداً ومسؤولاً.
إن الجيشان العاطفي والاجتماعي نحو طلب الحرية والمسؤولية الفردية الذي أحدثه عصر العولمة لن يتفهم بوضوح إيقاف تقنية مثل الـ«بلاكبيري» ولن يقبل بها شبابنا، حتى لو تم الاحتجاج عليها بداعي القلق الأمني ومكافحة الإرهاب، خصوصاً أن هذه الخدمة ستظل متوافرة في العالم كله باستثناء الدول التي يسهل على حكوماتها حجب الخدمات التقنية عن مواطنيها، كما فعلت الصين حين وقفت أمام خدمة «غوغل» وأخرجتها من البلاد، ووفرت بديلاً محلياً تحت رقابة الحكومة. لكن الصينيون في تجربتهم مع «غوغل» لمسوا طعم الحرية خارج الوصاية فنددوا بما حدث لا سيما وأن خدمة «غوغل» الحرة مكنتهم من تعقب كثير من أخطاء المتنفذين، وفضحت كذب التجار واللصوص من المستثمرين. كما ساعدتهم على التعبير عن أنفسهم والمطالبة بحقوقهم. وعلى رغم أن بعضهم سيقول إن الـ«بلاكبيري» ليس بأهمية «غوغل» وإن الاستهلاك أضر بأبنائنا مما يجعل الدفاع عن الـ«بلاكبيري» أضعف منه في الدفاع عن خدمة «غوغل»، إلا أن القيمة هي ذاتها. هي قيمة احترام الحرية الفردية ورفع الوصاية عن عقول الناس. هذه القيمة التي لا يمكن أيضاً المزايدة عليها بأي ثمن. كما أننا سنضطر دائماً للقول إن ترشيد الاستهلاك وتفادي مضاره هي مسؤوليتنا الاجتماعية، ولم يفد قط المنع والحجب والوصاية في إزالة السلبيات، بل على العكس فإن شبابنا المحروم سيبرر لنفسه القفز على الحواجز كلها، الحقيقي منها والمفتعل، وسيخلق هذا الحجب والمنع على الدوام من مواطنينا شخصيات غير ناضجة وغير مسؤولة لأنها لم تعامل على هذا النحو في الواقع.