لحج نيوز/بقلم:سلوي يحيى الارياني -
غبت عن أمي طويلا، كنت أتصل بها تلفونياً، أسمع أخبارها بشوق من الزوار القادمين منها. كانت ترسل لي معهم بعض المأكولات. كنت مثل كل ابن أحب و أفدي بروحي أمي. برغم كل المسافات كنت أبلغها بأي خبر مفرح لتفرح معي، كنت أخفي أي خبر محزن أو هم لكي لا أحزنها و لو كان همي ، فانا أحبها جداً، كيف لا؟ و هي أمي. لم أقدم لها شيئاً طوال عمري سوى حبي. أكتفت به وحلقت نشوةً و فرحاً بحبي لأنها أمي.
عندما بدأ الزوار يخبرونني إنها تشيخ ، مرضها يتمكن منها يوماً بعد يوم. لا أحد يسأل عنها و لا يطرق بابها، لا احد يحضر لها الطبيب و لا احد يقيس نبضها...خفت أن تموت. في زمن يختفي فية الناس،و ُيختطفوا و يتبخروا...بسكوت. قررت أن أزورها. لا أريدها أن ترحل ، لأنها لا محالة راحلة، دون أن احضنها حضن الوداع، لا أريد أن تتنازع عليها فتمزقها مخالب الجياع.
أريد أن أرعاها قبل خروج روحها، اشتهيت أن أشدو لها بقصائد عشقي لها و تحرقت شوقاً لأسمعها كلمات غزلي لعيناها العسليتان. يكفيني أن تسمعني و إن كانت تحتضر، يشعرني بالزهو بأنني ابن هذه العظيمة و سأشعر أنني أعظم الشعراء.
ذهبت اليوم التالي لسماعي خبر تفاقم عجزها و تدهور صحتها. أردت أن اغتنم دفء كفها قبل أن يبرد. أدمعت و أجهشت بالبكاء لتخيلي أن أتناول يدها فأجدها باردة برودة الموتى.
في المطار و هو مطار أمي، قال لي الضابط:" ما سبب الزيارة؟" قفزت من فمه نقطة لعاب كالشرارة و أحرقت خدي. أجبته :" أريد أن ازور أمي..أليس حقاً أن يعود الإنسان إلى داره؟" وجدته يعطيني ورقة مثنية، هاتفاً :"أتبع الخريطة!!" ثم دفعني من ياقة قميصي حتى كدت أكبو علي وجهي. تساقطت مني ابتسامتي ، أسناني و فمي .أخذت الخريطة و أسرعت الخطى خارجاً من المطار. اعرف يا مجرم كيف أصل إلى أمي. ببساطة سأتبع حاسة الشم مثل الكلاب، سأتبع رائحة التراب بعد المطر فأجد أمي، ليت رحمة الناس تهطل كهذا المطر الغزير، سأتبع الجبال الخضراء، سأتبع الفقر ، التخلف،الجوع و بطش البشر فأجدني وجهاً لوجه أمام أمي. لا أحتاج لخريطة لكي أصل إلى أمي. سأصل مثلما تصل الأرواح إلي السماء ، بدون رعاية و لكن بتوجيه من الله. سأرتمي عند بابك يا أمي، باكياً ، نابضاً،سأغمض عيني لعل الحضن يبدد لوعة الغياب. سأتهاوى فوق زندك، سأتوسد قلبك و أنبض مع نبضك، يا أرجوحة من لحم يتعلق بذهابها و إيابها كل الأحباب. أحبك يا أمي ،سأضمك إلى صدري و لو شمعت النوافذ بالشمع الأحمر و كهربوا الأبواب!! لأنني يا حبيبتي أراك بقلبي و لو كنت كفيف، أشمك بأنفي و لو رعفت و تدفق في شراييني النزيف،سأتلمسك بأصابعي ،أنت لست جسد يا أمي،بل جبال، نسمات،أهل و تراب عفيف.
لكن قررت أن افتح الخريطة من باب الفضول الذي نادراً ما يراودني ، لأرى ماذا رسم الرسام. بمجرد فتح الخريطة انبعثت رائحة أوراق نقدية. هاهنا باعوا و اشتروا، كسبوا و لم يخسروا،
و لكي يظهروا بمظهر المثقفين أسموكِ "قضية" و حركوا القضية ثم حركوا القضية...و من كثر الحراك أضاعوا الهوية. تجار كفار سكارى يدوسون علي جسدك و يشربون أنخاب يعقبها أنخاب، كلاب يا أمي، لماذا أرضعتِ كلاب؟
خرجت من بوابة المطار لأجد حضن غمرني ، باتساع السماء. جبال خضراء ، سماء سماويه، عينان عسليتان و رموش طويلة. لا شيء أحلى منها سوى أشواقي الجميلة. وجدت نفسي أمام طرق متفرعة.بعضها ترابي و معظمها معبد. كلها في أولها لافتة. لا شيء غامض أو مبهم . قرأت اللافتات، كتب عليها "انهب "..." اسرق"...."ارتشي".... "ابتسم و اكذب " و لافتات أخرى كثيرة لم تعجبني أياً منها. خاصة لافتة ُوضعت علي طريق ترتفع فوقه ألسنة نار ،كتب عليها "مرحباً ، ابقي معنا،لا تذهب". ضللت أقرأ اللافتات حتى وجدت الطريق الذي قد أستطيع أن اسلكه ، كتب علي لافتته "تحمل و اصمت". تأملت الطريق قبل أن أضع قدمي فوقه .كان طريق ترابي وعر ، تعلوه الخفافيش، تسيل علي جانبيه خيوط سم، و شرايين تنزف دماء، ينبعث منه صوت أنين مكتوم خفيف...اخترت ذلك الطريق، لماذا؟؟ ببساطة لأنني إنسان شريف!
بدأت امشي فيه. رأيت في أوله قصور فاخرة و بوابات فخمة وحدائق منسقة....و لمحت بحيرة فيها بجع وبط و عند البوابة يتزاحم الجياع. تطيع و تطأطئ رأسها في ذل لمالك القصر، تجوع بطاعة و تتنازل عن أعمارها و تموت بانصياع! حركني الغضب ،أردت أن افتح فمي غير إني سمعت جرس يرن و يرج الخريطة في يدي. فتحتها فوجدت اللافتة التي ُكتب عليها "تحمل و اصمت" تضئ باللون الأحمر. تذكرني أن" تحمل و اصمت". تنهدت. حسناً يا أمي سمعاً و طاعة. سأتحمل و اصمت لأنني لا أريد سواكِ. تجاوزت مسرعاً القصور و لم ألتفت إليها. وصلت إلى مكان طويل. يجلس في رأسه رجل بدين بادي الثراء يتزاحم الناس لمد أيديهم إليه. يمطرهم هو بغزارة ليس مالاً ،ليس كساءً،و لا طعاماً بل قذارة! يزهو بما يملك و يتغنى ببطولاته وكل من حوله يعلمون انه لص بجدارة. كان متجاهلاً الأيادي الممدودة إليه و مبعداً إياها من أمامه كما تهش ذبابه ، يتكلم عن أرصدته في البنوك، عن قطعة السماء التي بسط عليها بالأمس،عن فتوحاته في الأندلس...هكذا بكل وقاحة!!! تكلم عن رحلاته، عن جامعات أولاده، عن مجوهرات زوجاته، عن عقاراته و سياراته، عن علاجه في المريخ لأن حبة فوق انفه كدرت حياته، و من حوله يبتسمون له. يقتربون من كرشة المتخمة. غضبت من هذا الحقير ، أردت أن العنه.أن ادفعه عن كرسيه، ما أن رفعت يدي لأفعل حتى رن الجرس و لم افتح الخريطة لأنني كنت أعرف أنها لافتة "تحمل و اصمت". فصمت! أسرعت الخطى مبتعداً عن الاستفزاز. وجدت بعد ذلك مريضاً فوق سرير. تمتد إليه خيوط أجهزة. يلتف حوله جوقة من أفضل الأطباء. تحت سريره قططاً تتقيأ و مرضى يئنون لأنهم مرضى،لأنهم فقراء. لعن الله الظلم. لعن الله من استعبد الناس و قام هو بدور الملك أو أمير من الأمراء. من أنت يا أمير؟ هل تميز الفرق بين الألف و الباء؟؟؟ رن الجرس مدوياً. " تحمل و اصمت." صفعت فمي بيدي. سأصمت يا أمي... سأكتم الآه يا وجعي، يا همي.
قررت أن أغير المسار. فعدت أدراجي و دخلت طريق معبد، قرأت علي لافتته "تمتع". أنا تواق للتسلية و المتعة و الترف. لم أتمتع منذ أمد طويل و لم ارتح منذ أمداً أطول . سأمشي فيه بحذر و لن أتعجل. رأيت فيه وجوه كثيرة، جميعها قبيحة. رأيت رجل يختلس خزانة. رجل يطوف حول صنم الخيانة. رجل يهدي رجلاً آخر أنثي ملفوفة بورق لامع. رجل يطعن آخر في ظهره. رجل يبيع ضميره و قلمه و لسانه. بيع و شراء...جميعهم رجال يتمرغون في وحل المهانة. لكنهم بعد ذلك يتمتعون فعلاً. أما أنا فوقفت حائر ، فلا أنا نذل و لا أنا جائر. كيف أمشي في هذا الطريق؟ كيف ألقى وجه الله، فتوقفت عن السير فقد كنت فعلاً سائر. عدت مسرعاً إلي طريق "تحمل و اصمت. رأيت فوق طاولته الخريطة، تشبه التي في يدي. إذن هذا رسام الخريطة. هذا آخر المطاف. ارسم يا رسام ارسم. لا رقيب و لا حسيب عليك. ارسم!ضع أمي في قمقم. ارسم! ستنضب بعد قليل و لن تجد- يا مسكين- من تنهب. لن تتركها إلا و هي أرضاً قاحلة.مرمية جثث فوق بطنها. كانوا يوماً أجنتها و صاروا الآن جيفة متصاعدة. ارسم يا رسام ارسم. لا تأبه للجيفة المتصاعدة، إن هي إلا بشر حاقدة. ارسم يا رسام ارسم. خريطتك قاسية... لكن حذار أن تقلق او مثلاً تتكدر فنحن لا خوف منا.... صمً و عميً و بكمً!!!!!
نقلا عن التغيير